قصة عشق
قصة عشق .. بدأت في تلك اللحظة التي أحببتُه فيها ..
وبدأ نول الحياة في نسج بداية مسلسل ورحلة أرجو أن تمتد خيوطها لآخر العمر!
كنت وحيدة ملقاة على سرير في غرفة العناية المركزة، بعد حادث سير أَوْدَى ببقية الركاب.
مَدَّت عبير يدها إلى علبة العصير لتأخذ رشفة وهي تردِّد باستغراب: حمدًا لله على سلامتك. من كان يظن أن ينجو أحد بعد أن تدحرج الباص إلى أسفل المنحدر ككُرة مطَّاط كمشهد من مسلسلات تركية أو أفلام الإثارة والأكشن؟!
قبل أن تستيقظي همست الممرضة في أذني:
– لقد كُتب لصاحبتك عمر جديد، وعليها أن تخطط لعيشه بشكل أفضل. فأن تخرج من تلك المجزرة بكسر في لوح الكتف وبضع كدمات.. هذا برأيي لا يحدث إلا نادرًا!
لم ألتفت لعبير ولا لوخز الألم في كتفي. كل ما كان يشغلني أنِّي بحاجة لأرتمي في محرابِه باكية، وأقطع وعدًا بألَّا أتذمَّر مجددًا من سير الأحداث التي تتبعها خُطاي باسم القدر.
أجل.. ففي مركز اتصالات كالذي أعمل به، لا حديث لعشرات الفتيات إلا عن قصة عشق نَمَت هنا ليشتبك القلبان في قِران سعيد، وأخرى ارتطمت بجدار الخيبة والحظ العاثر.
لم أكن جميلة للحد الذي يخطف الأنظار، ويُوقِع موظف اتصال في شِباك غرامي. لكن مخاوفي تزداد مع تقدُّمي في السن..
– غيِّري تسريحة شعرك!
– قليلٌ من الماكياج لن يفسد أخلاقك. هيَّا.. فالعالم اليوم يقدِّس المظاهر!
لم أجد بَدًّا من الاستسلام أمام إلحاح يومي يُشعر قرويَّة مثلي بالخجل. ما من قصة عشق إلا وتتطلَّب بعض التضحية.
عشرات العيون تحدق بي في موقف الباص، متسائلة ربما عن سر هذا التحوُّل.
يُثيرني فضول الناس ويضغط على أعصابي كأني ارتكبت حماقة. أجمل ما في المدينة أنك لست مُطاَلبًا بتبرير أي شيء.
يومها كنت ساهِمة في انتظار الباص قبل أن يفاجئني بلطف غير مألوف:
– آنسة، يبدو أنك أضعت قلادتك في الباص. أظنها تحمل ذكرى عزيزة لذا غيَّرت السَّدَّادَة كي لا تفقديها ثانيةً !
بدت مرتبكة وهي تشكر له لطفه. لم يكن من اللَّائق أن تسأله عن ثمن السَّدَّادة، واكتفت بابتسامة خَجْلَى.
توالت اللقاءات في موقف الباص، وشعرت بأن حديث القلادة لم يكن سوى ذريعة ليُفصح القلبان عن علاقة تكافِئ وحدتها وانتظارها؛ لكنه سرعان ما رحل!
أسوأ ما في المدينة أن المآسي كحبَّات رمل تنثرها الريح دون أن يعبأ بها أحد…
بعد نوبات البكاء لم تجد بَدًّا من مواصلة العيش إلى أن بلغها خبر زفافه، فقررت أن تستقل الباص إلى ضاحية المدينة وتثأر لكبريائها أمام الجمع الغفير!
قصة عشق ما بين الانتقام والتَّوبة …
امتدت غيبوبتها لأربع ساعات، هكذا قالت عبير، لكن رحلتها بدت أطول من ذلك. فحين ارتطم رأسها بالعمود المنتصب داخل الباص.
شعرت وكأنها تحررت من رغبتها في التشفِّي، وحلَّقت في الأرجاء باحثة بين قطن السحاب عن بلسم يضمِّد روحها.
قفزت إلى ذهنها صور طفولتها في القرية: هي ذي ممسكة بيد مصطفى لتصحبه إلى الكُتَّاب.
تدنو من المسجد فيطرق سمعها صوت الشيخ وهو يردد بلحنٍ رخيم: (الرَّحْمَنُ*عَلَّمَ الْقُرْآنَ*خَلَقَ الْإِنْسَانَ*عَلَّمَهُ الْبَيَانَ).
يتوقف الشيخ بعد كل آية فيرتفع صراخ الصِّبْيَة ليحدث نشازًا أقرب للذي يَصدُر عن عازف مبتدئ. لكن ختم القرآن الكريم شرفٌ للعائلة، والصبي الذي يُفلِح في إتمامه يحظى بمجالسة وجهاء القرية.
(الرَّحْمَنُ..) لطالما هزَّت الكلمة أوتار قلبها، وهي تردِّدُها في رحلة الذهاب والإياب للكُتَّاب. إنها الآن بحاجة إلى “الرَّحْمَن” لتُرمِّم زجاج قلبها المكسور، بعد تجربة مجنونة!
تعود من الكُتَّاب لترتمي في حضن جدَّتها، حيث اللِّسان يَلهَج بنطق أذكار الصباح و أذكار المساء، وبركات الأدعية تنهال على كل من ألقى التحية من الأهل أو الجيران.
– جدَّتي، من هو الرَّحْمَن؟
تبتسم الجدة ثم تمسح شعر الصَّبِيّة بكفِّها:
– أسعدك الرَّحْمَن يا بُنيَّتي، هو اليد الحانِيَة التي تُذيب الصخر، وتُطفئ الجمر. من لنا في دنيا الأحزان غير رحمته التي تُبرِّد الأنفاس، وتُذهب كيد الوسواس الخنَّاس.
ثم تستدعي من الذاكرة بيتًا يُطرِّز الكلام: الرَّحْمَن الرَّحِيمْ ذِي الشَّأْنِ العَظِيمْ.
تمد صوتها بنبرة دافئة، فتغمض الصَّبِيَّةُ عينيها وتستسلم لنومٍ لذيذ.
نعم.. هو الرحمن الرحيم الذي شغلتها همومها الصغيرة عن تلبية ندائه. تذكَّرت بِلَوعة حركاتها على السجادة وهي تقلد صلاة الجدَّة، وإصرارها على تمتمة غير مفهومة حين تعبث أصابعها بالمسبحة.
تشكَّلت في حضن الجدة الذي كان موقع قصة عشق للرحمن وفروضِ طاعته، قبل أن تنتقل الصَّبِيَّة إلى المدينة ويبتلعها صخب الحياة.
تسلَّل من بين السُّحب نداءٌ خفي؛ إنه مصطفى يهُز لوحه بين يدي الشيخ مردِّدًا ببراءة: (الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ).
أجل.. هو القرآن.. سلوة الأحزان ونداء الرحمن. بحثت في درج المكتب عن مصحف صغير أهداها إياه مدرس اللغة العربية.
اغرورقت عيناها بالدموع وهي تستنجد بكل آية. أمضت ليلتها تتلو وتجتهد لأن يكون صوتها رخيمًا كالشيخ.. دافئًا كالجدة!
يرتفع أذان صلاة الفجر فيَطرَب قلبها للنداء. ليت كلَّ قصة تكون بهذا السُّمو والدفء وسكينة الوجدان! تتوضأ فيَسرِي في العروق نبض محبَّة، وتُقبِل على الصلاة فتنكشف المعاني لقلبها الحائر.
رنَّ الهاتف ذات صباح لتزُف إليها عبير نبأ ترقية ودعوة لحفل خطوبتها.
– لا، إنها ليست قصة عشق من أفلام ومسلسلات تركية كالَّتي في التلفزيون!
بل إنه ابن الخالة، شابٌ طيِّب القلب قرَّر أن يُكمل نصف دينه من داخل محيط العائلة، فوقع الاختيار عليَّ.
هي الرياح التي تُرغم أنف السُّفن على الإبحار من موقع قصة عشق وسط عاصفة بحرية إلى شواطئ هادئة تنعم بالسكينة!
هنَّأت صديقتها ودَعت لها بخير، ثم اتجهت إلى موقف الباص.
تحسَّست قلادتها مبتسمة، بينما صوت الشيخ يتردَّد صداه في الذاكرة: (وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ) – سورة الرَّحمن:46.