تاريخ مصر

مصر

أصل إسم مصر

أصل أسمائها (كمت، إيجيبتوس، مصر) وقد أطلق المصريون القدماء اسم “كِمْت” على الأرض المصرية والذي يعني الأرض السوداء في إشارة إلى أرض وادي النيل والدلتا الطينية تمييزاً لها عن الأرض الحمراء “دِشْرت” (الصحراء)، يعتقد البعض أن لفظة كيمياء مشتقة من كلمة كمت لبراعة المصريون القدماء في عمل التركيبات الكيميائية المستخدمة لتحنيط موتاهم.

أما اسم “إيجيبتوس” الذي اشتق منه اسمها الحالي ” ايجيبت ” باللغة الإنجليزية، فهو المسمى اليوناني الذي أطلقه الإغريق عليها ثم انتقل إلى اللاتينية ومن ثم باقي اللغات الأوروبية مع اختلاف النطق والحروف، الذي انتقل إلى القبطية باسم “جيبتيوس” ثم إلى “قبط” بالعربية أي قبطي وهو الاسم الذي أطلقه العرب على أهلها خلال تجارتهم معهم قبل الفتح الإسلامي كما أطلقوا لفظة “القباطي” على المنسوجات التي برع الأقباط في غزلها. جاء المسمى اليوناني تحريفاً لكلمة “حت كا بتاح” الذي يعني “منزل بتاح” في إشارة إلى معبد الإله بتاح في ممفيس.

أما اسمها الحالي فيعتقد أنه منسوب إلى حاييم بن مصرايم أحد أبناء سيّدنا نوح عليه السلام، وهو موجود في اللغات السامية ويُنسب أيضاً إلى الكلمة الأكادية القديمة “ميصرو” أو أنه جاء من الكلمة المصرية القديمة كلمة “مِجر” أو “مِشر” التي تعني المسور أو الحد وقد ذكرت مصر في القرآن الكريم خمس مرات صراحةً، كما ذكرت في التوراة.

 

موقع مصر

موقعها الجغرافي يحدد مدى أهميتها على خريطة العالم، إذ تقع في أقصى شمال شرق قارة أفريقيا وكما تعتبر من دول شمال أفريقيا تعتبر أحياناً من الدول الآسيوية نتيجة اتصال شبه جزيرة سيناء بآسيا فهي دولة عابرة للقارات، جعلها موقعها الفريد تتوسط العالم فكانت على مر العصور مطمعاً للغزاة وحلقة اتصال بين آسيا وأفريقيا نتيجة حركة الهجرة والتجارة بين القارتين.

تطل على البحر المتوسط شمالاً والبحر الأحمر شرقاً ويحدها من الغرب ليبيا ومن الجنوب دولة السودان وتشارك حدودها في سيناء مع الكيان الصهيوني وقطاع غزة ويفصل خليج العقبة بينها وبين الأردن كما يفصلها البحر الأحمر عن السعودية ويقابلها شمالاً من البحر الأبيض المتوسط تركيا واليونان وقبرص ويمر في جنوبها مدار السرطان عبر مدينة أسوان.

يشق نهر النيل الأرض المصرية من الجنوب إلى الشمال حيث تقع دلتاه، مقسماً الصحراء المصرية إلى صحراء شرقية وغربية ما أكسب الدولة المصرية أحد أهم عوامل حضارتها واقتصادها ألا وهو الزراعة لذلك فإن معظم السكان يتركزون حول وادي النيل والدلتا.

خريطة الموقع الجغرافي

تاريخ مصر

تاريخها الممتد عبر آلاف السنين يتميز بثرائه وتنوعه فقلَّما وُجِدت دولة تمتلك كل هذا الإرث التاريخي مثلها، منذ عصور سحيقة سادت الحضارة المصرية القديمة مكانتها كواحدة من أقدم و أعرق حضارات العالم، التي مازالت آثارها الشامخة منذ سبعة آلاف عام شاهدة على مدى مدنية وتقدم ورقي وعبقرية الإنسان المصري القديم ومازالت تبهر العالم وإلى جانب تلك الحضارة، فهي شهدت جوانب من الحضارات الإغريقية والرومانية والقبطية والإسلامية، تأثرت بها وأثرت فيها ولا تخلو أي مدينة أو بقعة مصرية من أثر دالٍّ عليها، فقد كانت مسرحاً لأحداث تاريخية هامة وكما يقول نجيب محفوظ “جاءت مصر أولاً ثم جاء التاريخ”.

 

تاريخ مصر القديم

عصور ما قبل التاريخ

حضارة مصر القديمة تمتد منذ آلاف السنين، ولم تكن الصحراء الغربية كما تبدو الآن، صحراء جرداء قاحلة تغطيها كثبان الرمال و تتخللها بعض الواحات الصغيرة، لقد كانت جنة مزدهرة بالأشجار والثمار والحيوانات والطيور، عاش بها البشر الأولون معتمدين في غذائهم على الجمع والالتقاط ثم على الصيد في مجموعات كحال معظم حياة الشعوب البدائية، لكن الأمور لم تسر على هذا النحو طويلاً، فقد دفعت موجة الجفاف الشديدة التي ضربت المنطقة مستوطنيها إلى البحث عن مكان آخر حيث تتوافر المياه، فكان اتجاههم صوب وادي النيل.

كذلك لم يكن وادي النيل يبدو كما اليوم، كان للنيل النابع من بحيرة تانا بأثيوبيا سبعة فروع تشكل الدلتا المصرية الحالية وهي: الفرع “البيلوزي” الذي كان يمر عبر سيناء والفرع “التانيتى” و”المنديسي” و” السبنتينى” و”البلبتى” “الكانوبي” “الفاتنيتى” اختفوا جميعاً ولم يبق سوى اثنان: “الكانوبى” فرع رشيد والفرع “الفاتنيتى” فرع دمياط حالياً، كان سبب اختفاء هذه الفروع تصرف نهر النيل المنخفض وزيادة معدل الإطماء.

هذه الفروع كانت تتخللها المستنقعات التي تعج بأفراس النهر والتماسيح والعديد من الحيوانات والطيور فيما كان ينمو نبات البردي مزدهراً على ضفاف نهر النيل التي كانت أرضاً خصبة صالحة للزراعة بعد ترسب الطمي لآلاف السنين ومن هنا بدأت الملامح الأولى لأعرق حضارة عرفها التاريخ.

تعرف هذه الفترة بمصر ما قبل التاريخ والتي توصف أيضاً بعصر ما قبل الأسرات الممتدة منذ بدأ الاستيطان البشري حتى بدأت فترة أُسَر الدول القديمة في 3100 ق. م.، كان الاعتقاد السائد لدى علماء الآثار في البداية أن الحضارة المصرية لم يسبقها فترة ما قبل التاريخ وأنها وجدت قائمة بذاتها دون مقدمات لاسيما مع إهمالهم دراسة الأدوات الحجرية التي وجدوها أثناء عمليات التنقيب لذلك ظلت هذه الفترة مجهولة وغير معترف بها حتى عام 1870م عندما اعترفت جمعية دراسة الإنسان بإمكانية وجود فترة ما قبل التاريخ فيها بعد التوصل إلى عدة اكتشافات وحفائر عثر عليها العالمان هنري ولانورمونت ومن قبلهما العالم الفرنسي أرسلان في رحلته إليها عام 1868م والذي أجرى دراسة على آلات الظِّرَّان التي عثر عليها عند أهرامات الجيزة وفي الأقصر وترجع إلى العصر الحجري.

أُكتشفت فيها أولى المظاهر الحضارية خلال العصر الحجري القديم أي منذ 100 ألف عام ق.م. بوادي حلفا في النوبة أقصى جنوبها، حيث اكتشفت مساكن شبه دائمة وأدوات حجرية، اكتشفت أيضاً مظاهر للثقافة العاترية التي ظهرت في شمال أفريقيا ووصلت مصر منذ 40 ألف عام ق.م.، تبعها فترة الخورموسيين “صناعة خور موسى” منذ ما يقرب 42 ألف إلى 32 ألف عام ق.م. في مصر والسودان، صنع الخورموسيين أدواتهم ليس من الحجر فقط بل من عظام الحيوانات و معدن الهيماتيت ومن مكتشفات العصر الحجري القديم المتأخر “هيكل نزلة خاطر” المُكتشف في سوهاج سنة 1980م ويعد من أقدم الهياكل العظمية الكاملة المُكتشفة في أفريقيا خلال العصر الحجري القديم المتأخر.

 

خلال العصر الحجري الوسيط ظهرت عدة حضارات وثقافات:

حضارة وادي حلفا منذ 18 ألف إلى 15 ألف عام ق.م. في النوبة والحضارة القبانية في صعيد مصر وهما امتداد للثقافة الإيبيروموريسية التي ظهرت على امتداد ساحل شمال أفريقيا، تميزت حضارة وادي حلفا باعتماد أصحابها على نظام غذائي يعتمد على قطعان الحيوانات الكبيرة وصيد السمك على الطرق الخورموسية وقد اكتشفت بعض النقوش الحجرية الدالة على تلك الحضارة إلى جانب الأدوات الحجرية.

الثقافة السيبلية تسمى أيضاً (صناعة إسنا) وتمتد من وادي حلفا جنوباً إلى قنا شمالاً وتأريخها يرجع إلى نحو 13 ألف إلى 10 آلاف عام ق.م. ضمن اكتشافات عثر عليها في كوم أمبو وتميزت بزراعة القمح والشعير.

الثقافة القدانية ظهرت في الصعيد من الشلال الثاني إلى توشكى منذ 15 ألف عام ق.م. ويعتقد أنها استمرت لأربعة آلاف عام، تميزت بتطور أساليب الصيد وزراعة الحبوب وطحنها وكان سكان قدان أول من طور المناجل كما طوروا رحى الطحن ومن أبرز آثارهم مثبرة جبل الصحابة بوادي حلفا.

الثقافة الحريفية ظهرت في صحراء النقب وشمال سيناء من 10 آلاف عام ق.م. تقريباً وهي تتشابه مع أحدث مراحل الثقافة النطوفية مثل بناء المنازل المجوفة وهاجر بعض أفرادها إلى الفيوم والصحراء الشرقية.

 

ظهرت ثقافات و حضارات العصر الحجري الحديث في منطقتين رئيسيتين:

أ- مصر السفلى (شمالاً):

– ثقافة الفيوم (أ) و (ب) ظهرت في واحة الفيوم كجزء من مستوطنات العصر الحجري الحديث المنتشرة في ربوعها خاصة وادي النيل نتيجة توسع الصحراء، امتدت هذه الفترة من 6 آلاف إلى 9 آلاف عام ق.م. حيث ظهر نسيج الملابس لأول مرة.

– حضارة مرمدة بني سلامة (4800 – 4300 ق.م.) وتعرف أيضاً باسم “ثقافة مريمدة” ظهرت في مستوطنة جنوب الدلتا منذ 5 آلاف عام ق.م. في قرية مرمدة بني سلامة التي تتبع محافظة الجيزة حالياً، عاش السكان في أكواخ وقاموا بتربية الماشية وزراعة القمح والشعير والذرة الرفيعة وصنعوا أواني فخارية إلى جانب أدواتهم الحجرية كما صنعوا تماثيل طينية، اكتشف هذا الموقع عالم الآثار الألماني هيرمان يونكر في 1928م.

– ثقافة العُمري ظهرت في وادي حوف شمال حلوان منذ 4 آلاف عام ق.م وهي شبيهة إلى حد كبير بثقافة الفيوم من حيث الحياة الاقتصادية والدينية، صنع سكانها الأواني البيضاوية وعرفوا صناعة الحصير والنسيج.

– حضارة المعادي أو “حضارة بوتو المعادي” ظهرت في القاهرة منذ 5,500 ق.م. واكتشفها عالم آثار فرنسي في 1920م، من أبرز سماتها استخدام النحاس.

ب- مصر العليا (في الصعيد):

– حضارة دير تاسا “الثقافة التاسية أو ثقافة تاسيان” (4500 ق.م.) اكتُشفت في 1927م على الضفة الشرقية للنيل ما بين أسيوط وأخميم بسوهاج، تميزت بإنتاج أولى الأواني الفخارية ذات الحافة السوداء، التي كانت ذات فائدة كبيرة في وضع تسلسل زمني يمكن من خلاله التأكد من التاريخ النسبي لفترة ما قبل عصر الأسرات في مصر.

– حضارة البداري (4400 – 4000 ق.م.) نسبة إلى مركز البداري بأسيوط وهي متشابهة لحد كبير مع حضارة دير تاسا لدرجة اعتقاد البعض أنها حضارة واحدة، حيث تطورت المنتجات الفخارية والأدوات المصنوعة من حجر الصوان وتلك المصنوعة من النحاس، من مميزات تلك الفترة أيضاً تطور تقنية دفن الموتى حيث اعتقد البداريون في البعث بعد الموت فكانوا يدفنون موتاهم في سلال من الخوص في الرمال واتجاه رؤوسهم نحو الغرب ويلفونهم بالحصير أو جلود الحيوانات، كما كانوا يدفنون معهم بعض الحيوانات والأواني، حافظ البداريون على علاقات تجارية مع جيرانهم ولم يكونوا حضارة منفصلة.

– حضارة نقادة نسبة إلى مدينة نقادة بمحافظة قنا (4400 – 3000 ق.م.) قسمها عالم الآثار البريطاني فلندرز بيتري الذي اكتشف موقعها في 1894م إلى ثلاث حضارات:

1- حضارة نقادة الأولى (4400 – 3500 ق.م.) وتعرف أيضاً باسم “الحضارة العمراتية” نسبة إلى موقع العمرة في أبو تشت بمحافظة قنا على بعد 120 كم من البداري، استمر استخدام الأواني الفخارية ذات الحواف السوداء مع ظهور نوع آخر مزخرفة بخطوط بيضاء، أثبتت الاكتشافات وجود حركة تجارية بين مصر العليا والسفلى حيث صنع العمراتيون قوارب من نبات البردي كما كان لهم علاقات تجارية مع الواحات، استورد العمراتيون أيضاً الذهب من النوبة وخشب الأرز من جُبيل في لبنان والرخام والسنفرة من جزيرتي باروس وناكسوس الواقعتان في البحر المتوسط وحجر السبج من أثيوبيا، كان لكل قرية عمراتية إله من الحيوانات وقد دفن العمراتيون الطيور والأسماك والأطعمة والأسلحة والتماثيل وغيرها مع موتاهم وتملكوا العبيد أيضاً.

2- حضارة نقادة الثانية (3500 – 3200 ق.م.) تعرف أيضاً باسم “حضارة جرزة” نسبة إلى موقعها في قرية جرزة بالفيوم، تطورت الثقافة العمرانية وانتشرت على طول وادي النيل عدا النوبة حيث بُنيت المساكن من الطوب اللبن وبدأت المدن في الظهور والتوسع، استخدم الفخار المصنوع من الطين الجيري لأول مرة وظهرت تأثيرات بلاد ما وراء النهرين على ثقافة جرزة.

3- حضارة نقادة الثالثة (3200 – 3000 ق.م.) يعتبرها البعض مواتية لفترة الأسر الأولى حيث بدأت حركات توحيد البلاد وظهرت الكتابة الهيروغليفية لأول مرة إضافة إلى ظهور أول مقابر ملكية حقيقية وانتهت تلك الفترة بظهور عصر الأسرات المبكر.

 

عصر الأسرات

عصر الأسرات المبكرة

(3100 – 2890 ق.م.) اتفق عدد من المؤرخين على تسمية فترة الملوك والحكام الذين سبقوا الأسرة الأولى والثانية باسم الأسرة صفر “أسرة التوحيد” وأول من استخدم تلك التسمية عالم الآثار جيه. كوبيل عام 1900م ويعتقد البعض أن الملك العقرب و نعرمر يمثلان آخر ملوك تلك الأسرة.

إلا أن العديد ينسب تأسيس الأسرة الأولى (حوالي 3100 – 2890 ق.م.) للملك نعرمر (نارمر أو مينا) ولعل من أهم ما عٌرف عنه توحيده للشمال والجنوب المصري (مصر السفلى والعليا) تحت تاج واحد وتأسيسه لعاصمة جديدة، بدلاً من ثينيس، في منف (قرية ميت رهينة بمحافظة الجيزة الآن)، التي ظلت عاصمتها حتى الأسرة الثامنة لذلك يلقب بموحد القطرين وصاحب التاجين أو موحد مصر ومن ضمن الآثار التي خلدت ذلك “صلاية نعرمر” أو لوحة “نعرمر” التي عُثر عليها في هيراكونبوليس أو مدينة نخن (الكوم الأحمر في أسوان)، التي تصور منظرين على واجهتيها؛ تصور الواجهة الأولى في أعلاها وجهين للربة حتحور ثم الملك نعرمر وهو يرتدي تاج مصر العليا الأبيض ويمسك بيده بُلطة يهوي بها على أحد أعدائه الشماليين وخلفه يقف حامل صندل الملك وأمامه الإله حورس وفي الأسفل اثنان من الأعداء الشماليين يهربان وقد كُتب إلى جوارهما أسماء مقاطعة كل منهما. في المنظر الثاني لخلفية اللوحة، وجهي للربة حتحور أعلى اللوحة وأسفلها موكب للملك نعرمر مرتدياً التاج الأحمر لمصر السفلى متجهاً إلى مدينة بوتو ثم مشهد لكائنين خُرافيين متشابكين الأعناق وبالأسفل يصور الملك على شكل ثور يهاجم أحد حصون أعدائه ويسحق أحدهم تحته.

يٌنسب للملك نعرمر أيضاً تأسيس أول حكومة مركزية في البلاد وبعدما لقي مصرعه عندما كان يصطاد أفراس النهر في أحراش الدلتا تعاقب عليه ثمانية ملوك يرجع أغلبهم إلى مدينة ثينيس (البربا، سوهاج حالياً) أول عاصمة لمصر لذلك يطلق على هذا العصر “العصر الثيني” أو “العصر العتيق” وفي عهد الأسرة الأولى بدأت ملامح الحضارة المصرية القديمة في التبلور وتطورت العلاقات التجارية خاصة مع بلاد كنعان التي عُثر فيها على آثار توثق فترة حكم نعرمر.

لا يُعرف على وجه التحديد سبب صعود الأسرة الثانية (2890 – 2686 ق.م.) وانتهاء فترة الأسرة الأولى، لكن يظهر أن ملوك الأسرة الثانية اتخذوا ثينيس عاصمة لهم مجدداً ومع ذلك تظهر بعض الشواهد أن بعضهم فضل الإقامة في منف وقد تولى سبع ملوك حكم الأسرة الثانية ولم يختلفوا كثيراً عن سياسة ملوك الأسرة الأولى، يرجع تقسيم الأسر المصرية الحاكمة إلى المؤرخ المصري مانيتون الذي قسمهم إلى ثلاثين أسرة حاكمة طوال فترة الممالك المصرية القديمة والوسطى والحديثة.

 

عصر الدولة القديمة

(2780 – 2263 ق.م) تٌعرف الفترة بداية من الأسرة الثالثة وحتى نهاية الأسرة السادسة باسم عصر المملكة المصرية القديمة وهي الفترة التي تلت العصر العتيق وتُعرف أيضاً باسم “عصر بُناة الأهرام” لكثرة ما شيده ملوكها من أهرام، كان الملك زوسر أول ملوك الأسرة الثالثة، أول من بنى هرماً في مصر في جبانة ممفيس “منف” في سقارة، عٌرف هذا الهرم باسم هرم زوسر المدرج لأنه تكون من ست مصاطب، كل مصطبة أصغر من التي تليها، وقد بنى زوسر إلى جواره معبداً جنائزياً.

كان بناء الأهرام بمثابة مقابر لملوك الدولة القديمة وقد امتدت الأهرام المصرية من أبو رواش بالجيزة حتى هوارة بالفيوم وزاد عددها عن المائة وقد شيد الملك سنفرو مؤسس الأسرة الرابعة ثلاثة أهرام منهم هرم في بقعة جغرافية أبعد والذي يُعرف باسم هرم ميدوم في بني سويف ويُعرف عن هذا الملك إرساله الحملات التأديبية لتأمين الحدود المصرية كما أرسل أسطولاً إلى لبنان لاستيراد خشب الأَرز، لحقه الملك خوفو الذي شيد الهرم الأكبر ضمن أهرام الجيزة الثلاثة التي تٌعد من عجائب الدنيا السبع.

ثم ابنه خفرع الذي بنى هرم الجيزة الثاني وينسب إليه بناء تمثال أبو الهول رغم أن البعض ينسب ذلك إلى أبيه خوفو، لحقه منقرع أو منكاورع الذي بنى الهرم الأصغر ضمن أهرام الجيزة وقد وصلت المملكة المصرية القديمة إلى قمة مجدها خلال الأسرة الرابعة وبالإضافة إلى تطور المعمار شهد النحت والفن تقدماً كبيراً وفي عهد الأسرة الخامسة التي أسسها أوسركاف وصل المصريون القدماء إلى بلاد بونت (الصومال حالياً) حيث استوردوا البخور والعاج وخشب الأبنوس وجلود الحيوانات وغيره.

وفي عهد الأسرة السادسة، دب الضعف في المملكة المصرية القديمة واستعظم خطر البدو وبدأ الحكام الاستقلال بأقاليمهم وظهرت الاضطرابات الداخلية في عهد بيبي الثاني وامتدت لما بعد وفاته وقد أدى جفاف النيل إلى ازدياد الصراعات والمجاعات وبانهيار المملكة القديمة دخلت البلاد في الفترة الانتقالية الأولى أو ما يُعرف باسم عصر الاضمحلال الأول.

 

عصر الدولة الوسطى

(2123- 1778ق.م) استمر عصر الاضمحلال الأول لما يقرب من مائة وخمسة وعشرين عاماً من 2181 ق.م وحتّى سنة 2055 ق.م من نهاية الأسرة السادسة وحتى الأسرة العاشرة اللواتي لم يكن لهن أي إنجازات تذكر، سادت خلالها حالة الفوضى والاضطرابات وسُرقت المعابد ودُمرت وأصبح التنافس على الحكم في منطقتين رئيسيتين، إهناسيا في بني سويف المعروفة باسم هيراكليوبوليس والتي أضحت عاصمة البلاد خلال فترة حكم الأسرة التاسعة والعاشرة ومدينة طيبة (الأقصر) التي ستصبح العاصمة بدورها خلال فترة الأسرة الحادية عشر إلى الثالثة عشر.

وقد استطاع أمير طيبة إيمحوتب الثاني مؤسس الأسرة الحادية عشر، توحيد البلاد وإعادة الاستقرار والأمن في البلاد وشكل عهده إيذاناً ببدء عصر المملكة المصرية الوسطى التي اتسمت بالرخاء الاقتصادي نظراً لما أقامه ملوك تلك الفترة من مشروعات للنهوض بموارد البلاد.

اقتصرت فترة الدولة الوسطى على الأسرتين الحادية عشر والثانية عشر ومن أعظم ملوكها، الملك أمنمحات الأول مؤسس الأسرة الثانية عشر والذي استطاع القضاء على هجمات الآسيويين ونقل العاصمة من طيبة إلى عاصمة جديدة أسماها “أتيت تاوي” (تقع حالياً في اللشت بالفيوم) وتولى من بعده الملك سنوسرت الأول الذي يعرف لدى الإغريق باسم “سيزوستريس الأول” والذي تميز عهده بالتقدم الصناعي والزراعي إضافة إلى الأدب والفنون لذلك يُعد من أعظم ملوك المملكة الوسطى وقد امتدت رقعة الأراضي المصرية في عهده إلى الشلال الثاني جنوباً ومن آثاره الباقية مسلة مازالت قائمة إلى الآن في المطرية بعين شمس.

من أبرز ملوك الدولة الوسطى أيضاً، الملك سنوسرت الثالث، الذي ينسب إليه شق أول قناة تصل بين البحر الأحمر والمتوسط عبر النيل وسميت هذه القناة على اسمه طبقاً لأرسطو والتي ساهمت في حركة التجارة مع بلاد بونت وجزر البحر المتوسط وساحل فينيقيا إلى جانب مساهمتها في حركة الزراعة، كما استكمل توسعات سالفيه فوصل إلى الشلال الثالث وأسس العديد من القلاع والتحصينات في الجنوب لعل أبرزها قلعتا سمنة وقمنة ومنها ما بُني في فينيقيا كما بنى معبداً في أبيدوس (سوهاج) وهرماً في دهشور (الجيزة)، تلاه الملك أمنمحات الثالث الذي شيد سد اللاهون بالفيوم ثم أمنمحات الرابع الذي أرسل حملات استكشافية إلى سيناء وإلى الجنوب لأجل الحصول على المعادن كما أقام علاقات تجارية مع بونت وفينيقيا وقد توفي دون أن يترك وريث ذكر يرثه فتولى الحكم “سوبيك نفرو” ابنة أمنمحات الثالث وأول امرأة تحكم مصر والتي يعتقد البعض أنها أخت أمنمحات الرابع وتوفيت هي الأخرى بدون وريث وبذلك انتهى حكم الأسرة الثانية عشر وانتهى معها عصر المملكة الوسطى وبدأ عصر الاضمحلال الثاني.

 

عصر الدولة الحديثة

(1550 – 1069 ق.م.) عادت الفوضى من جديد ضمن فترة انتقالية ثانية ما بين المملكة الوسطى والحديثة فيما يسمى عصر الاضمحلال الثاني (1650- 1550 ق.م.) وامتد من الأسرة الثالثة عشر حتى الأسرة السابعة عشر، بدأ الهكسوس في غزو مصر في عهد الأسرة الثالثة عشر والهكسوس قبائل آسيوية لا يُعرف موطنها الأصلي تحديداً ولفظة الهكسوس مشتقة هي تحريف للكلمتين المصريتين القديمتين قحاو خاسوت التي تعني “حكام البلاد الأجنبية” وقد اتخذوا من مدينة هواريس (تعرف أيضاً باسم أواريس، صان الحجر بالشرقية حالياً) عاصمة لهم واعتبر حكمهم أول استعمار أجنبي في تاريخها.

انتهز أمراء منطقة سخا بكفر الشيخ حالياً ضعف الأسرة الثالثة عشر فاستقلوا بالإقليم وأسسوا الأسرة الرابعة عشر، متخذين سخا عاصمة لهم. وما لبث أن أسس الهكسوس أنفسهم الأسرة الخامسة عشر والسادسة عشر وقد قلدوا المصريين وقدسوا معبوداتهم وتلقبوا بألقاب ملوكهم وتعدت فترة تواجدهم فيها مئة عام إلا أن المصريين كانوا ينظرون إليهم نظرة الغاصب المحتل.

وفي طيبة التي شكل أمرائها الأسرة السابعة عشر، أُعلنت الحرب على الهكسوس وقادها في البداية الملك سقنن رع إلا أنه سقط صريعاً في ساحة المعركة فاستكمل الحرب ابنه كاموس من بعده وهو آخر ملوك الأسرة السابعة عشر ثم جاء ابنه أو أخيه أحمس الأول ليؤسس الأسرة الثامنة عشر ويبدأ بذلك عصر المملكة المصرية الحديثة الذي امتد حتى الأسرة العشرين، يُنسب إلى أحمس قضائه التام على الهكسوس فبعد أن هزمهم و سقطت في يده عاصمتهم أواريس، طاردهم حتى فلسطين حيث فروا إلى حصن شاروهين وسقط الحصن أيضاً مع الحصار فاستسلموا ومنذ ذلك الحين لم تقم لهم قائمة، أرسل أحمس أيضاً حملة عسكرية إلى بلاد النوبة لتأديب أميرها الذي تحالف مع الهكسوس ونجح في ضمها إلى مصر ووصلت الحملة إلى الشلال الثاني. وعقب انتهاء الصراعات الخارجية وتأمين حدود البلاد ولى أحمس اهتمامه لإصلاح شؤون البلاد الداخلية وأصلح المعابد واتخذ من طيبة عاصمة للبلاد.

تولى الحكم من بعد أحمس الأول ابنه أمنحتب الأول والذي اتسم عهده بالهدوء والأمن وقد أرسل ثلاث حملات عسكرية إلى النوبة وصلت إلى الشلال الثالث ودافع عن حدود البلاد الغربية كما أرسل عدة حملات عسكرية إلى فلسطين واستعاد العلاقات التجارية الخارجية وربما لأنه لم يخلف وريثاً ذكراً أن تولى الحكم تحتمس الأول الذي ارتبط بالعائلة المالكة نتيجة المصاهرة وخلال فترة حكمه بلغت الدولة المصرية أقصى اتساع لها، بداية من مدينة كركميش (جرابلس، سوريا) على نهر الفرات شمالاً إلى ما بعد الشلال الرابع جنوباً، ثم خلفه تحتمس الثاني وزوجته حتشبسوت ابنة تحتمس الأول، أعظم ملكات مصر والتي تشتهر ببنائها معبد الدير البحري الذي صورت نقوشه الرحلات التجارية التي كانت ترسلها إلى بلاد بونت، تبعها الملك تحتمس الثالث والذي يُعد من أعظم القادة العسكريين والملوك ليس في الأراضي المصرية وحسب بل في العالم القديم بأسره، فهو مؤسس الإمبراطورية المصرية، الذي أرسل ستة عشر حملة عسكرية إلى سورية وفلسطين للقضاء على تمرد تلك الأقاليم التي استغلت وفاة حتشبسوت واستطاع هزيمة تحالف قاده أمير قادش مع الأمراء الآسيويين في معركة مجدو الشهيرة (1457 ق.م.) والتي خلدها على جدران معبد الكرنك كما ثبت دعائم حكم الإمبراطورية المصرية في النوبة وأغار على مملكة ميتاني وعاد منتصراً وقد حكم البلاد لمدة أربعة وخمسين عاماً حتى وفاته وخلفه ابنه أمنحتب الثاني.

من أبرز ملوك تلك الأسرة الذي تُشكل فترة حكمه مثار جدل كبير، الملك أمنمحات الرابع أو كما يٌعرف باسم إخناتون أي “الروح الحية لآتون”، الذي قاد ثورة دينية دعا فيها إلى توحيد آلهة الديانة المصرية تحت عبادة إله واحد أسمه آتون رمز إليه بقرص الشمس وبنى له معبداً في العاصمة الجديدة التي اختارها بعيداً عن كهنة آمون في طيبة اسمها إخيتاتون أي “أُفُق آتون” (تل العمارنة بمحافظة المنيا حالياً) لذلك يُطلق على تلك الفترة “عصر العمارنة” ونتيجة اهتمامه بدينه وفلسفته الجديدة أن أهمل شؤون البلاد الداخلية والخارجية وبعدما توفى، تولى الحكم “سمنخ كا رع” لفترة وجيزة ثم تولى الحكم الملك توت عنخ آمون الذي أعاد الوضع الديني إلى سابق عهده وانتقل إلى طيبة تحت ضغط كهنة آمون الذين هدموا آثار إخناتون ومدينته ومحوا اسمه من على أي أثر يخلده وبالنسبة للملك توت الذي مات شاباً فإنه لم يكتسب شهرته نتيجة إنجازات أو أعمال قام بها، فليس له إنجازات تُذكر ولكن ارتبطت شهرته بالعثور على محتويات مقبرته كاملة دون أن تمتد إليها أيادي اللصوص والتي اكتشفها هوارد كارتر في 1922م. وكان حورمحب آخر ملوك الأسرة الثامنة عشر.

تُشكل الأسرة التاسعة عشرة والأسرة العشرون معاً حقبة تعرف بإسم (عصر الرعامسة) حيث حمل اسم رمسيس أحد عشر ملكاً أغلبهم خلال فترة الأسرة العشرين، أسس رمسيس الأول الأسرة التاسعة عشر ولم يكن له أصول ملكية لكنه كان قائداً عسكرياً ووزيراً في عهد حور محب واعتلى العرش بعد وفاته حيث عمل أيضاً على القضاء على أي مظاهر لديانة آتون ثم تولى ابنه سيتي الأول الذي بنى العديد من المعابد في أبيدوس وطيبة ثم تولى الحكم من بعده رمسيس الثاني (رمسيس الأكبر) أعظم ملوك مصر القديمة لما له من إنجازات عسكرية وما خلفه من آثار معمارية ضخمة ويعرف لدى اليونانيين الإغريق باسم ” أوزايمنديس”، عمل رمسيس الثاني على استعادة ممتلكات البلاد في عهد الأسرة الثامنة عشر فوجه حملاته عسكرية إلى سورية وفلسطين والنوبة وعقب معركة قادش أقام أول معاهدة سلام في التاريخ مع ملك الحيثيين وأستطاع هزيمة القراصنة الشردان الذين كانوا ينهبون السفن المصرية في البحر المتوسط، بني رمسيس الثاني العديد من الآثار لم يسبق لملك مصري بنائها.

فقد أسس مدينة “بر رمسيس” على أنقاض مدينة أواريس للإشراف على حملاته في بلاد الشام وبنى عدة معابد أو استكمل بنائها في أبيدوس والكرنك كما بنى معبد الرامسيوم ومعبدان في أبو سمبل وترك مسلتان إحداهما في معبد الأقصر والأخرى في باريس واشتهر بطول مدة حكمه التي قاربت سبعة وستين عاماً وتعدد زوجاته ومحظياته وكثرة أبنائه وبناته. وقد واصل خلفائه حملاته العسكرية إلا أن فترة الاضطراب التي تعرض لها البلاط الملكي إبان فترة مغتصب العرش “آمون مس” جعلت من الصعب السيطرة على الأراضي بفعالية.

أسس ست ناختي الأسرة العشرين وكان أهم ملوكها رمسيس الثالث الذي هزم شعوب البحر المتوسط التي أرادت غزو بلاده في عهده براً وبحراً وصد هجمات القبائل الليبية، أثقلت تلك الحروب خزينة الدولة وظهر أول إضراب عُمالي في التاريخ خلال السنة التاسعة والعشرين من حكم رمسيس الثالث وعقب وفاته تولى ثلاثة من أبنائه الحكم على التوالي وتزايد معدل الجفاف ما أدى لحدوث مجاعات وانتشار الفساد وأصبحت قوة الملوك ضعيفة بحيث أصبح كهنة آمون المتحكمين في السلطة وقبل وفاة رمسيس الحادي عشر انفرد “سمندس” بحكم مصر السفلى ودخلت البلاد عصر اضمحلال ثالث.

امتد عصر الاضمحلال الثالث (1069- 664 ق.م.) أو الفترة الانتقالية الثالثة من الأسرة الحادية والعشرين التي أسسها سمندس إلى الأسرة الخامسة والعشرين، وفي حين سيطر سمندس على مصر السفلى، حكم كهنة آمون على مصر العليا، حتى جاء شيشنق الأول ذو الأصول الليبية وتمكن من توحيد الدولة وتأسيس الأسرة الثانية والعشرين التي حكمها ملوكاً أجانب لكن البلاد انقسمت مجدداً بعد حكم أوسركون الثاني، سيطر شيشنق الثالث على مصر السفلى في حين سيطر تاكليوت الثاني وابنه أوسركون الثالث لاحقاً على مصر الوسطى والعليا ودخلت البلاد في حرب أهلية بين الفصيلين توجت بانتصار تاكليوت الثاني وتأسيسه للأسرة الثالثة والعشرين وبعد وفاة رودامون آخر ملوكها، استفادت مملكة النوبة من الاضطراب السياسي وسيطرت على مصر العليا وحكم ملوك الأسرة الرابعة والعشرين لفترة وجيزة متخذين من سايس (صا الحجر بالغربية) في غرب الدلتا عاصمة لهم.

تأسست الأسرة الخامسة والعشرين (الأسرة الكوشية أو النوبية) في نباتا في مملكة كوش بعدما غزا الملك بعنخي الأراضي المصرية وفرض الملك شبتكو كامل السيطرة على وادي النيل في مصر الوسطى والسفلى وتميز ملوك تلك الأسرة بمعاودة بناء الأهرام خاصة في السودان وقد حاولوا التوسع نحو الشرق الأدنى إلا أنهم اصطدموا بمقاومة الآشوريين والذين غزوها في عهد سرجون الثاني وسنحاريب وطردوا الكوشيين منها وتأسست الأسرة السادسة والعشرين كأسرة تابعة للآشوريين ودخلت البلاد في مرحلة جديدة عُرفت باسم “العصر المتأخر”.

 

العصر المتأخر والغزو الفارسي

يُطلق على فترة حكم الأسرة السادسة والعشرين وحتى الأسرة الحادية والثلاثين مصطلح “العصر المتأخر” (664 – 332 ق.م.)، شهدت تلك الفترة تولّي آخر ملوك من أصل مصري ممثلين في الأسرة السادسة والعشرين حكم البلاد، بعدها وقع الغزو الفارسي لمصر في 525 ق.م.، نتيجة جعل مقر الحكم في مدينة سايس (صا الحجر)، تُعرف هذه الأسرة باسم “الأسرة الساسية” وترجع أصولها إلى الأسرة الرابعة والعشرين وبعد أن غزا الآشوريون الأراضي المصرية وطردوا الكوشيين منها، اعترفوا بأبسماتيك الأول (رابع ملوك الأسرة 26) ملكاً على البلاد والذي أستغل الثورات والحرب الأهلية في إمبراطورية آشور ليقطع صلته بها وينفرد بحكمها، بالإضافة إلى ذلك قضى على سيطرة بقايا الأسرة النوبية الخامسة والعشرين بعد أن أرسل أسطولاً إلى طيبة، مجبراً ملكة النوبة “شيب نوبت الثانية” على اتخاذ ابنته وريثة لها وأقام علاقات وثيقة مع بلاد الإغريق ودعاهم لإقامة مستوطنات في الدلتا كما جَنّدَ المرتزقة الإغريق في جيشه.

وعندما سقطت “نينوى” عاصمة آشور في يد البابليين في 612 ق.م. حاول نخاو الثاني تمكين السيطرة المصرية على الشرق الأدنى إلا أنه هزم على يد جيوش نبوخذ نصر الثاني ملك الإمبراطورية الجديدة، أعاد نخاو الثاني حفر القناة التي تربط بين البحر الأحمر والمتوسط عبر النيل وكلف بعض البحارة الفينيقيين برحلة حول قارة أفريقيا استغرقت ثلاث سنوات. وقد تمكن الملك “واح-إيب-رع” المعروف لدى الإغريق باسم “أبريس” بمساعدة المرتزقة الإغريق من صد محاولات بابل غزو بلاده وبعد سقوط بابل نفسها في يد الفرس الأخمينيين تطلعوا بدورهم إلى غزو الأراضي المصرية، فالتقى جيش الملك قمبيز الثاني ملك بلاد فارس مع جيش الملك أبسماتيك الثالث في معركة بيلوسيوم الفاصلة (معركة الفرما) في سنة 525 ق.م.، حيث انهزم أبسماتيك الثالث وأٌسر وأُرسل إلى بلاد فارس حيث أُعدم.

تحولت البلاد إلى ولاية فارسية وكان قمبيز الثاني أول ملوك الأسرة السابعة والعشرين التي تألفت من ملوك فارس الذين أنابوا عنهم ما يعرف باسم ساتراب أي حاكم المقاطعة أو الولاية الذي يٌعرف باسم (المرزبان) لدى العرب وبالرغم من أن داريوس الأول انتهج سياسة أكثر تسامحاً مع المصريين من قمبيز فقد ثار المصريون بقيادة أبسماتيك الخامس على الحكم الفارسي في عهد الملك الفارسي “خشايارشا الأول” وفي سنة 460 ق.م. شهدت البلاد ثورة كبيرة هُزم فيها الفرس وقُتل نائبهم ودخل الثائرون ممفيس العاصمة، إلا أن الفرس استطاعوا هزيمتهم نهائياً في 454 ق.م.
خلال عهد داريوس الثاني، ثار أحد النبلاء المصريين ويدعى “أميرتايوس” واستطاع بمساعدة فرسان من كريت من تكوين جيش هزم به الحامية الفارسية في ممفيس وأعلن نفسه فرعوناً، مؤسساً بذلك الأسرة الثامنة والعشرين وهو ملكها الوحيد وبعدها لم يحاول الفرس غزو البلاد إلا في عهد أردشير الثالث في 343 ق.م. حيث أسس الأسرة الحادية والثلاثون التي دامت لفترة وجيزة وانتهى الحكم الفارسي فيها بهزيمة الإمبراطورية الأخمينية على يد الإسكندر المقدوني.

 

الإغريق والعصر البطلمي

بعدما وحد الإسكندر الأكبر بلاد الإغريق، خرج ضد الإمبراطورية الفارسية الأخمينية وأطاح بملكها وامتدت فتوحاته إلى آسيا الصغرى وسوريا وفينيقيا وبعد أن وصل فلسطين فرض حصاراً على الحامية الفارسية في غزة تمهيداً لغزو الأراضي المصرية في 323 ق.م. وبعد ثلاث محاولات سقط الحصن الذي تتحصن به الحامية الفارسية واستكمل الإسكندر طريقه فوصل إلى الفرما دون مقاومة ثم إلى منف و استقبله المصريون بالترحاب لكراهيتهم للحكم الفارسي، سار بعدها بجيشه شمالاً بمحاذاة فرع النيل الكانوبي فوصل إلى قرية صغيرة تدعى راقودة على ساحل البحر المتوسط تواجهها جزيرة تسمى فاروس، أمر الإسكندر بردم جزء من المياه لكي تتصل اليابسة بالجزيرة وعهد إلى المهندس “دينوقراطيس” ببناء مدينة على النسق الإغريقي في 331 ق.م. فكانت مدينة الإسكندرية، وجه الإسكندر احتراماً كبيراً للديانة المصرية وزار معبد الإله آمون في واحة سيوة حيث خلع عليه الكهنة لقب ابن آمون كما أعلنوه فرعوناً وقد غادر الإسكندر لاستكمال فتوحاته فقضى على الإمبراطورية الفارسية ووصل إلى الهند لكنه مرض وعاد إلى بابل حيث توفي في بابل وقُسّمت إمبراطوريته المترامية الأطراف على قادته فكانت الأراضي المصرية من نصيب بطليموس.

تأسست المملكة البطلمية نسبة إلى “بطليموس الأول سوتير” في 305 ق.م. و دامت لنحو ثلاثة قرون وهي جزء من الممالك الهلنستية التي ضغطت عليها الثقافة اليونانية واتخذت من الإسكندرية عاصمة لها وخلال تلك الفترة أصبحت الإسكندرية من أعظم مدن الحضارة الهلنستية، أعلن بطليموس الأول نفسه فرعوناً وأسس سلالة مقدونية يونانية قوية بحيث أصبحت الحدود المصرية تمتد من جنوب سوريا شمالاً إلى النوبة جنوباً وبرقة غرباً وجاء الكثير من المقدونيين إلى الأراضي المصرية حيث أسسوا مستوطنات خاصة بهم أغلبها في الدلتا ولكسب تأييد المصريين أطلق البطالمة أو البطالسة على أنفسهم “فراعنة” وصوروا أنفسهم في هيئة ملوكهم وتبنوا التقاليد الملكية المصرية حتى أنهم مارسوا زواج الأخوة وبنوا المعابد لآلهة الديانة المصرية في جزيرة فيلة ودندرة وقدموا لها القرابين كما صوروا أنفسهم على جدران تلك المعابد مع استقدامهم للآلهة الإغريقية للبلاد، وقد تسمى أغلب ملوك تلك السلالة باسم بطليموس فيما تبنت الملكات اسماء كليوباترا وأرسينوي وبيرنيس.

كان بطليموس الثاني من أعظم ملوك البطالمة، فإلى جانب حملاته العسكرية ضد المملكة السلوقية المنافسة وعبر البحر المتوسط، غزا النوبة وهزم المملكة الكوشية ومد حركة التجارة عبر موانئ البحر الأحمر وكان يهتم بالعلم والأدب فولّى رعايته لمتحف ومكتبة الإسكندرية التي يُعتقد أن الإسكندر المقدوني أو بطليموس الأول مؤسسها، أصبحت الإسكندرية في عهده العاصمة الاقتصادية والثقافية للعالم الهلنستي في عصره، خلفه بعد ذلك ابنه بطليموس الثالث الذي اقتصرت حروبه على المملكة السلوقية فنجح في هزيمتها وسيطرت أساطيله على سواحل الأناضول وبلاد الإغريق ويُعد من أكثر ملوك البطالمة تشييداً للمعابد في الإسكندرية وإدفو وإسنا وغيرها وهو مؤسس فنار الإسكندرية الذي يُعد من عجائب الدنيا السبع.

دَبّ الضعف في المملكة البطلمية إثر وفاة بطليموس الثالث حيث خلفه ملوك ضعاف تنافسوا على العرش، ازدادت ثورات المصريين نتيجة الضرائب الباهظة وتعاظم خطر المملكة السلوقية بعدما هزمت الجيوش البطلمية في معركة بانيوم عام 200 ق.م. وبنهاية العهد البطلمي كان الرومان المتحكمين في مقاليد الحكم في مصر وقد حاولت كليوباترا السابعة استعادة عرشها من أخيها بطليموس الثالث عشر بمساعدة يوليوس قيصر الذي تزوجها لاحقاً وعندما قُتل في عام 44 ق.م.

انقسمت روما بين فريقين متنافسين، فريق مارك أنطوني وفريق أكتافيوس ودعمت كليوباترا فريق أنطونيو والذي تزوجته أيضاً، أعلن أكتافيوس الحرب ضد تحالف أنطونيو وكليوباترا واستطاع هزيمة أساطيلهم المشتركة في معركة أكتيوم البحرية 31 ق.م. ثم توجه إلى الإسكندرية وهزم قوات أنطوني المتبقية وانتحر أنطوني وتبعته كليوباترا في 30 ق.م. ومنذ ذلك الحين أصبحت الأراضي المصرية ولاية رومانية.

 

العصر الروماني

أصبحت الأراضي المصرية سلة غلال الإمبراطورية الرومانية ومركزاً تجارياً هاماً لها وامتدت منها حركة التجارة حتى وصلت إلى الهند وأثيوبيا بينما نافست الإسكندرية روما في أهميتها الحضارية والفكرية وكانت من أهم مقاطعات الإمبراطورية حينها لذلك عمل الحكام الرومان على نشر الحاميات الرومانية بها حتى أسوان ومنهم من غزا النوبة، أصبحت الإسكندرية أيضاً مركزاً للديانة والثقافة اليهودية بعدما طُرد اليهود من القدس وقد ثار اليهود في عهد تراجان ثورة كبيرة وقمعت ثورتهم، كذلك أدت الضرائب الباهظة إلى ثورات المصريين من حين لآخر وبالرغم من إعطائهم الجنسية الرومانية في عهد الإمبراطور كاراكلا فلم تكن سوى محاولة أخرى لرفع الضرائب عليهم.

غزت زنوبيا “ملكة تدمر” مصر في 269 م وأعلنت نفسها ملكة عليها لكن استطاع الرومان استعادتها في 274 م، كانت المسيحية قد بدأت تتسرب إلى البلاد في القرن الأول الميلادي وهي البلد التي لجأت إليها العائلة المقدسة هرباً من هيرودس الأول، وكانت من أولى دول العالم التي تعتنق المسيحية التي بشّر بها القديس مُرقس وقد تعرض المسيحيون المصريون مثل سائر المسيحيين في أرجاء الإمبراطورية الرومانية إلى القمع والتنكيل بلغ أقصاه في عهد دقلديانوس خاصة في مصر لدرجة اتخاذ الكنيسة القبطية أول سنة في حكمه 284 م بداية للتقويم القبطي وإطلاق اسم (عصر الشهداء) على فترة حكمه وظل الوضع على هذا النحو حتى اعترف الإمبراطور قسطنطين الأول بالمسيحية ديانة معترف بها ضمن ديانات الإمبراطورية الرومانية في مرسوم ميلانو الصادر عام 343م.

كانت الأراضي المصرية من نصيب الإمبراطورية البيزنطية الشرقية بعد انقسام الإمبراطورية الرومانية إلى واحدة شرقية وأخرى غربية في 395م وعقب مجمع خلقيدونية في 451م والاختلاف حول طبيعة المسيح تأسست كنيسة مصرية عُرفت بإسم الكنيسة القبطية الأرثوذكسية لا تتبع الكنيسة البيزنطية في مذهبها ونتيجة ذلك تعرض الأقباط المصريين للاضطهاد من قبل البيزنطيين وفي 619م غزا الفرس الساسانيين الأراضي المصرية وضموها لإمبراطوريتهم حتى 629م عندما عادت مجدداً إلى بيزنطة.

 

تاريخ مصر في العصور الوسطى

فتح مصر الإسلامي

بعد نجاح المسلمين العرب في الاستيلاء على سائر بلاد الشام من الإمبراطورية البيزنطية المتهالكة في عهد الخليفة عمر بن الخطاب ثاني الخلفاء الراشدين، أشار عمرو بن العاص إليه بضرورة فتح مصر، فأذن له وسار عمرو بجيشه منطلقاً من بلاد الشام في 639 م بجيش قوامه أربعة آلاف رجل انضم إليهم لاحقاً آلافاً آخرين أُرسلوا كمدد لاحقاً، سار عمرو إلى العريش ثم إلى الفرما استطاع الجيش الإسلامي هزيمة البيزنطيين في معركة عين شمس الفاصلة والاستيلاء على حصن بابليون، اتجه عمرو بعدها صوب الإسكندرية عاصمة البلاد وحاصرها حتى سقطت في 641 م وبذلك انتهى الفتح الإسلامي لمصر، الذي كان من أيسر الفتوحات الإسلامية خلال الخلافة الراشدية، بانضمامها إلى الدولة الإسلامية الناشئة.

نظراً لأهميتها الكبيرة حاول البيزنطيون استردادها عدة مرات ونجحوا في ذلك في 645 م لكن عمرو بن العاص نجح في استعادتها في العام التالي وفي 654 م أرسل الملك قسطنطين الثاني أسطولاً كبيراً نحوها لكن المسلمون استطاعوا هزيمته في معركة ذات الصواري، أول معركة بحرية في التاريخ الإسلامي والتي سميت بذلك لكثرة صواري السفن فيها ومنذ تلك المعركة لم يبذل البيزنطيون محاولات أخرى لاستعادتها.

اتخذ العرب من المكان الذي نصب فيه عمرو بن العاص خيمته عاصمة جديدة أسموها الفسطاط وفرضوا على سكانها الأقباط الجزية مقابل تأمينهم، أعفي منها غير القادرين والرهبان، شكل الاضطهاد الديني إضافة إلى الضرائب الباهظة التي فرضها البيزنطيون على الأقباط عاملاً قوياً في نجاح الفتح الإسلامي انعكس في ترحيب البطريرك بنيامين الأول كبير القبط بالعرب والذي خرج في استقبال عمرو بن العاص بعدما أجبره الاضطهاد الديني على الاختباء في الصحراء لسنوات، كان الفتح الإسلامي لمصر نقطة تحول هامة في تاريخها خلال بداية العصور الوسطى بتحول غالبية أهلها إلى الإسلام بحلول القرن السابع واعتمادهم اللغة العربية بديلاً عن القبطية واليونانية منذ ذلك الحين.

خيّر المسلمون الأقباط بين الدخول في الإسلام ودفع الجزية مقابل تأمينهم على أنفسهم وكنائسهم وعقيدتهم وقد ظل أغلب أهل البلاد على المسيحية حتى تحول أغلبهم إلى الإسلام بنهاية العصر المملوكي وبالقرب من عين شمس حيث عسكر المسلمون، في الموضع الذي نصب فيه عمرو بن العاص خيمته “فسطاطه”، أسس مدينة جديدة لإقامتهم عرفت باسم الفسطاط والتي صارت العاصمة الجديدة للبلاد حتى العصر الإخشيدي، كما بني فيها مسجده الشهير الذي يعد من أوائل المساجد في مصر وأفريقيا، أصبح عمرو بن العاص أول حاكم عربي لمصر حتى عزله الخليفة عثمان بن عفان واستبدله بعبد الله بن أبي السرح في 645 م ثم استبدل بن أبي السرح بالقرشي محمد بن أبي حذيفة 654 م.

 

عهد الدولة الأموية

عقب انتهاء الفتنة الأولى بين المسلمين عاد عمرو بن العاص والياً على مصر حتى وفاته في 664 م نظير مساعدته معاوية بن أبي سفيان في تثبيت ركائز الدولة الأُموية، كان عمرو قد غزاها في 685 م وانتزعها من محمد بن أبي بكر الذي نصبه الخليفة علي بن أبي طالب والياً عليها وخلال أحداث الفتنة الثانية أرسل عبد الله بن الزبير، عبد الرحمن بن عتابة الفهيري والياً من طرفه عليها بعدما حصل على تأييد الخوارج فيها مما حدا بالخليفة الأُموي مروان الأول أن يغزوها بنفسه في 684 م وعين ابنه عبد العزيز حاكماً عليها طوال عشرون عاماً.

خلال العهد الأُموي أصبحت قاعدة لانطلاق الجيوش الإسلامية لاستكمال فتوحات شمال إفريقيا التي كانت قد توقفت نتيجة الأزمات السياسية وبعد الشروع في تعريب الدواوين في البلاد سنة 706 م ظهر أول تشكيل للّهجة العربية المصرية وبدأت اللغة العربية في الانتشار منذ ذلك الحين وقد امتد عهد الدولة الأُموية من 658 م حتى 750 م بهروب آخر خليفة أُموي، محمد بن مروان، إلى أبو صوير، جنوب الجيزة وتعقبه العباسيون وقتلوه.

 

عهد الدولة العباسية

تميّزت أولى سنوات حكم العباسيين في مصر برفع الضرائب مما ساهم في اندلاع ثورة شعبية ضدهم في السنة الرابعة من حكمهم لهذه البلاد، ثم تجددت الثورة في 828 م ومرة أخرى في 831 م وفيها انضم الأقباط المسيحيون إلى السكان المسلمون ولم تتوقف الثورات إلا في عهد الخليفة المعتصم عندما أوقف دفع مرتبات الجُند “العطا” من ضرائب الولاية وأمر بإرسالها مباشرة إلى بغداد كما أبعد العائلات العربية عن ديوان الجند وأرسل العطا من بغداد إلى الجنود الأتراك فقط المتمركزين في مصر الذين كانوا يحظون بثقته فجعل منهم ولاة عليها، في ذلك الوقت بدأت أعداد المسلمين في تجاوز السكان المسيحيين ومنذ القرن التاسع اتسعت عملية التعريب في البلاد وخلال الحكم العباسي اشتهر الصعيد خاصة في أسوان بأعمال التنجيم عن الذهب.

 

عهد الدولة الطولونية

كان الخليفة العباسي “المعتز” قد ولى أحد قادته الأتراك ويدعى “بايكباك” حكم مصر والذي بدوره عهد إلى ابن زوجته “أحمد بن طولون” ليكون نائبه والذي استطاع أن يؤسس أول أسرة تركية حاكمة للبلاد منذ العصر البطلمي، لم يكتف أحمد بن طولون بالحكم على هذه الأراضي بل توسع فضم سوريا وقبرص وكريت وبلاد الحجاز بعدما أسس جيشاً خاصاً به جُلّه من الترك والروم وقد ظلت الأسرة الطولونية تحكمها منذ 868 م حتى 905 م حينما استردها العباسيون مجدداً.

كانت الاضطرابات السياسية والثورات ضد الخلافة العباسية واتساع الرقعة الجغرافية للخلافة وظهور النزعة الشعوبية ممثلة في تعاظم سلطة الجند الأتراك من عوامل استقلال بن طولون عن الخلافة العباسية وإن لم يكن استقلالاً تاماً فكان الخراج يُرسل إلى الخليفة العباسي ويدعى له من فوق المنابر.

وقد شهدت البلاد خلال حكم الطولونيين نهضة اقتصادية وعمرانية كبيرة، فأسس بن طولون عاصمة جديدة أسماها “القطائع” وبنى فيها مسجده الشهير بالمئذنة المصممة على غرار مئذنة مسجد سامراء كذلك اهتم بإصلاح السدود والترع وبعد وفاته في 884 م تولى الحكم ابنه خُمارويه والذي سار على درب أبيه فاستطاع الحفاظ على ممتلكات الدولة الطولونية من محاولات الخلافة العباسية استرجاعها لاسيما بعد مصاهرة خمارويه للخليفة العباسي “المعتضد بالله” بتزويجه ابنته “قطر الندى” وبعد مقتله في بلاد الشام سنة 896 م تولى الحكم ابنه “جيش” ثم “هارون” الذي فشل في صد هجمات القرامطة على بلاد الشام واستطاع العباسيون من صدهم وقد حفز هذا النصر الذي أحرزه العباسيون إلى دفع الخليفة العباسي “المكتفي بالله” في أن يرسل جيشاً بقيادة محمد بن سليمان الكاتب استولى على بلاد الشام ثم دخل القطائع وأحرقها ونظير ذلك أقره الخليفة والياً على مصر وبذلك عادت إلى الحكم العباسي بعدما ظلت تحت حكم الطولونيين 38 عاماً.

 

عهد الدولة الإخشيدية

كان ظهور الدولة الفاطمية في شمال أفريقيا وتوسعها وتهديدها لمصر أمر يؤرق الخلافة العباسية. ونتيجة جهود أحد المماليك الأتراك المبعوثين من الخلافة العباسية ويدعى “محمد بن طغج “، في القضاء على الفتن الداخلية بمصر وصد هجمات الفاطميين وإقرار الأمن في البلاد أن عينه الخليفة العباسي “أبو العباس محمد الراضي بالله” والياً على مصر في سنة 935 م كما منحه لقباً فارسياً هو الإخشيد وهو اللقب الذي يطلق على ملوك فرغانة (إحدى حواضر أوزبكستان حيث يرجع أصل بن طغج) ويعني “ملك الملوك”.

وقد تمكن محمد بن طغج الإخشيدي على غرار بن طولون من الاستقلال بولاية مصر وضم إليها بلاد الشام فيما عدا حلب كذلك نجح في ضم بلاد الحجاز، كان بن طغج يعلم تماماً حاجته إلى قوة عسكرية خاصة لتثبيت حكمه فيها، فكوَّن جيشاً جُلُّه من الزنوج والمماليك نجح به في دخول مصر وتمكن من هزيمة أحمد بن كيغلغ الوالي السابق الذي عزله الخليفة، لكنه حشد جيشاً وتحالف مع الماذرائيين المعارضين لحكم بن طغج، انتهى الأمر بانتصار بن طغج وهروب معارضيه إلى أراضي الدولة الفاطمية، كذلك تمكن بن طغج من المحافظة على بلاد الشام التي حاولت الخلافة العباسية استرجاعها حينما استشعرت خطر بن طغج وسيره على نهج بن طولون.

بعد وفاة بن طغج الإخشيدي بدمشق في 946 م، تولى أبو المسك كافور الإخشيدي شؤون الحكم نيابة عن ولدي محمد بن طغج نظراً لصغر سنهما، كان كافور من أكثر مماليك بن طغج الأحباش تقرباً له واستطاع من السيطرة الفعلية على الحكم لمدة 22 عاماً سواء نائباً أو حاكماً نجح خلالها في توسيع رقعة دولته على حساب ضعف الدولة الحمدانية كذلك نجح في التصدي لهجمات الفاطميين، لكن بعد وفاته في 968م تولى الحكم أبو الفوارس أحمد الإخشيدي الذي لم يستطع صد الفاطميين الذين دخلوا مصر في العام التالي.

 

عهد الدولة الفاطمية

كانت الدولة الفاطمية التي نشأت في شمال أفريقيا متخذةً المذهب الشيعي الإسماعيلية مذهباً رسمياً، تسعى جاهدة لضم الأراضي المصرية وحاولت ذلك عدة مرات خلال عهد الدولة الإخشيدية إلا أن جيوش محمد بن طغج الإخشيدي كانت تنجح في صدها وعقب وفاة كافور ساد الاضطراب السياسي وعمت الفوضى والانهيار الاقتصادي فوجدها الخليفة الفاطمي المعز لدين الله فرصة سانحة للإستيلاء عليها فسيّر قائده المعروف جوهر الصقلي على رأس جيش عرمرم من 100 ألف مقاتل، نزل جوهر الصقلي بالإسكندرية دون مقاومة واستمر زاحفاً نحو الفسطاط ودخلها بعد أن هزم الإخشيديين بسهولة.

فور بسط سيطرته على ربوع البلاد، أمر جوهر ببناء مدينة جديدة شمال شرق مدينة القطائع، تكون حاضرة الدولة الفاطمية ولتكون مقر إقامة الخليفة والجند بعيداً عن الأهالي وبني بها القصر الفاطمي الكبير والجامع الأزهر وهكذا تأسست مدينة القاهرة في 17 شعبان سنة 358 الموافق 7 يوليو 969 م وقد اختلفت المصادر في سبب تسميتها بذلك، فإما لأنها ستقهر العباسيين “الأعداء التقليديين للفاطميين” وإما لأنها ستقهر أعدائها أو سميت كذلك نسبة لأحد الكواكب ويدعى القاهر والمقصود به كوكب المريخ الذي ظهر في السماء وقت بناء المدينة. وفور إتمام بنائها دخلها الخليفة المعز في 972 م واتخذها عاصمة للدولة الفاطمية بدلاً من مدينة المنصورية في تونس ومنذ ذلك الحين أصبحت عاصمة مصر.

كان القرامطة قد تقدموا من بلاد الشام إلى مصر ونجحوا في حصار القاهرة في 971 م، إلا أن جوهر الصقلي تمكن من هزيمتهم وردهم من حيث أتوا، لكنهم عاودوا غزوها مجدداً في وجود الخليفة الفاطمي، استشعرت الخلافة الفاطمية خطر القرامطة في بلاد الشام ومع وفاة المعز في 975 م وتولى ابنه العزيز بالله خامس الخلفاء الفاطميين سدة الحكم، عزم على القضاء على خطرهم فسيّر الجيوش إلى بلاد الشام التي كانت استعصت على أبيه من قبل ونجح أخيراً في الاستيلاء عليها وهزيمة القرامطة بنفسه في 978 م كما نجح في ضم بلاد الحجاز إلى الدولة الفاطمية.

عمل الفاطميون على نشر المذهب الشيعي في مصر من خلال تأسيس الجامع الأزهر الذي سيصبح منارة علمية هامة لكافة المسلمين من كل بقاع العالم، كما أسس الحاكم بأمر الله الذي تولى الخلافة بعد أبيه العزيز، مكتبة دار الحكمة لنفس الغرض، كان الحاكم بأمر الله مثار جدل كبير ومازال إلى يومنا هذا، فقد كان في بداية حكمه تقياً زاهداً ثم بدأ في فرض مراسيم وقرارات غريبة لعل أشهرها منع أكل الملوخية كما شن حملة اضطهاد ضد الأقباط فعزلهم من وظائفهم وألزمهم بلبس الزنانير ومنع أعيادهم وهدم كنائسهم وأمر بهدم كنيسة القيامة فيما اعتبره البعض أحد أسباب الحملات الصليبية، ثم تغيّر موقفه تجاههم متخذاً سياسة أكثر سماحة مع اليهود والمسيحيين فأمر بإعادة الكنائس المهدمة، كذلك يتهمه البعض بادعاء الألوهية وفي إحدى الليالي خرج واختفى نهائياً ويرجح أنه قُتل ومازالت الطائفة الدرزية التي يمثل فيها الحاكم بأمر الله شخصية محورية، تظن أنه سيعود يوماً ليملأ الأرض عدلاً.

بعدها تولى الحكم ابنه “الظاهر لإعزاز دين الله” فعمل على إزالة آثار والده بدعم من عمته ست الملك وطارد الدروز وقتلهم، ثم ملك من بعده ابنه المستنصر بالله وهو دون الثامنة مقاليد الحكم ولعل أشهر ما يعرف عنه “الشدة المستنصرية”، فترة المجاعة والفوضى التي ضربت البلاد نتيجة نقص منسوب مياه النيل والتي دامت سبع سنوات، استغل فيها الولاة ضعف الدولة الفاطمية فاستقلوا بولايتهم كذلك خرجت الكثير من البلدان عن حكم الفاطميين ولم ينصلح الحال إلا بقدوم بدر الجمالي والي عكا الذي طلب منه الخليفة إصلاح البلاد فنجح في فرض النظام والقضاء على الثورات والفتن وأصلح الترع والجسور ونظم شؤون الدولة وأصلح أسوار القاهرة ومبانيها لذلك منحه الخليفة رتبة الوزير ولقب أمير الجيوش وقد توفي المستنصر في عام 1094 م بعد فترة حكم استمرت ستين عام.

بداية من 1040م واجه الفاطميين خطر انفصال ممالكهم في شمال أفريقيا وموالاتها للعباسيين وخطر الأتراك السلاجقة في بلاد الشام في 1070م ثم خطر الحروب الصليبية وفقدوا صقلية بعد أن استولى النورمان عليها تماماً في 1091 م وفي 1099 دخل الصليبيون القدس بعدما فشل الفاطميون في صدهم في عهد الخليفة المستعلي بالله ابن المستنصر حيث دب الضعف في الخلفاء الفاطميين بحيث استولى الصليبيون على كامل ممتلكات الفاطميين في بلاد الشام واقتصرت ممتلكات الخلافة على مصر وساهم في ذلك الصراع بين الخلفاء ووزرائهم وفي عهد الخليفة العاضد طلب وزير الدولة الفاطمية ويدعى “شاور” مساعدة حاكم دمشق “نور الدين زنكي” في صراعه مع الوزير ضرغام على الوزارة فأرسل حملة عسكرية بقيادة “أسد الدين شيركوه” نجحت في هزيمة ضرغام، إلا أن شاور غدر بنور الدين الزنكي وأرسل يستنجد بالصليبين فعاد شيركوه بحملة عسكرية أخرى وهزم الصليبين وقُتل شاور بناء على أمر الخليفة العاضد الذي عين شيركوه وزيراً ولما مات شيركوه أُسندت الوزارة إلى ابن أخيه “صلاح الدين بن أيوب” الذي ما لبث بضغط من نور الدين زنكي أن قطع الدعاء للعاضد واستبدله بالدعاء للخليفة العباسي المستضيء بأمر الله ثم توفي العاضد بعدها بأيام وبذلك سقطت الدولة الفاطمية.

شهدت البلاد خلال أوج الدولة الفاطمية و ذروة مجدها نهضة فكرية في العلوم والفنون والأدب وتغييرات ملموسة في الحياة الاجتماعية ما زالت تأثيراتها موجودة إلى الآن مثل استعمال فوانيس شهر رمضان وحلوى المولد والاحتفال بالموالد واتسم العصر الفاطمي بمظاهر الثراء والعظمة ومن أشهر إنتاجات العصر الفاطمي الأدبية “السيرة الهلالية” وكان الحسن بن الهيثم من أبرز العلماء المسلمين وقتها.

ومازالت الآثار المعمارية للفاطميين موجودة إلى الآن منها أبواب القاهرة: النصر والفتوح وزويلة والقوس وجامع الحاكم بأمر الله ومشهد الإمام الحسين والجامع الجيوشي وغيرها من الجوامع والمزارات في القاهرة وربوع مصر، كذلك فإن شارع المعز الذي سُميّ على اسم مؤسس القاهرة الذي يقع فيه جامع الحاكم بأمر الله، يُعتبر أكبر متحف إسلامي مفتوح نظراً لما يضمه من آثار معمارية ترجع لعصر الدولة الفاطمية وما تلاها.

 

عهد الدولة الأيوبية

بدأ عهد الأسرة الأيوبية (1174 م – 1250 م) بسيطرة صلاح الدين الأيوبي وهو كردي من تكريت، على أراضي الدولة الزنكية في بلاد الشام والتي كان يحكم مصر نيابة عنها وذلك بعد وفاة نور الدين زنكي الذي كان يستعد لتسيير جيش إلى مصر عندما تيقن أن نائبه صلاح الدين خرج عن طاعته إلا أن المنية عاجلته وبذلك وحد صلاح الدين بلاد الشام ومصر تحت حكم واحد واتخذ لقب سلطان كما ضم بلاد الحجاز واليمن والنوبة وبرقة وأعاد تبعية مصر إلى الخلافة العباسية، إضافة إلى ذلك أزال مظاهر المذهب الشيعي في مصر.

عزم صلاح الدين على استرداد بيت المقدس من الصليبيين فعمل على إنشاء الحصون والقلاع وبنى قلعته الشهيرة في القاهرة “قلعة الجبل” التي أصبحت مقراً للحكم لخلائفه من بعده وحتى عهد الخديوي إسماعيل، مع ذلك كان أغلب وقت صلاح الدين في دمشق لمتابعة حروبه مع الصليبيين واستخلف نائبه بهاء الدين قراقوش على البلاد. كان الصليبيون بقيادة “رينالد دي شاتيون” المعروف لدى العرب باسم “إرناط” صاحب قلعة الكرك قد جهزوا أسطولاً بحرياً فراحوا يُغيرون على موانئ البحر الأحمر ويهاجمون حجاج المسلمين، كما كانوا يعتزمون مهاجمة مكة والمدينة إلا أن صلاح الدين أرسل إليهم أسطولاً استطاع هزيمتهم وعندما أعاد أرناط مهاجمة قوافل المسلمين والاعتداء على الحجاج، تحرك صلاح الدين بجيشه وهزم الصليبيين في عدة مواضع واستولى على عدد من مدنهم وقلاعهم حتى كانت المعركة الفاصلة في حطين سنة 1187م التي حقق فيها المسلمون انتصاراً كبيراً وبعدها بثلاثة أشهر دخل القدس وسقطت أغلب المدن الساحلية في يده فيما عدا طرابلس وأنطاكية. عندها قرر ملوك أوروبا إرسال حملة صليبية جديدة لاسترداد بيت المقدس “الحملة الصليبية الثالثة” بقيادة ريتشارد قلب الأسد ملك إنجلترا الذي نجح في استعادة عكا إلا أنه اضطر أن يوقع صلح الرملة مع صلاح الدين الذي توفي بعدها في 1193م ودفن بدمشق.

عقب وفاة صلاح الدين ساد النزاع بين أبنائه وأخيه العادل على الحكم، استغل الصليبيون تنافس الأسرة الأيوبية على الحكم فأرسلوا عدة حملات عسكرية منها “الحملة الصليبية الخامسة” التي اتجهت إلى دمياط وضربت حصاراً حولها وفي النهاية استولت عليها لكن السلطان الكامل نجح في هزيمتهم لكنه تنازل عن بيت المقدس لصالح الإمبراطور فريدريك الثاني قائد الحملة الصليبية السادسة وفي تلك الأثناء برز خطر المغول الذين كانوا يهاجمون الدولة الخوارزمية.

بوفاة الملك الكامل، تولى ابنه الصالح نجم الدين أيوب في 1240م والذي استرد بيت المقدس وغيرها من الصليبيين، مما تسبب في تجهيز حملة صليبية سابعة بقيادة ملك فرنسا لويس التاسع توجهت مجدداً إلى دمياط ونجحت في الاستيلاء عليها وفي تلك الأثناء توفي نجم الدين أيوب فأخفت زوجته “شجر الدر” خبر وفاته حتى لا يفت ذلك في عضد الجنود وأرسلت إلى ابنه توران شاه تستدعيه من بلاد الشام لتولي مقاليد الحكم، استطاع توران شاه ومن معه من المماليك من إلحاق الهزيمة بالصليبيين في معركة المنصورة وأسر الملك لويس التاسع وبذلك انتهت الحملة الصليبية السابعة بفشل كبير. بعدها حاول توران شاه التخلص من الأمراء المماليك وزوجة أبيه شجر الدر فما كان منهم إلا أن تآمروا عليه وقتلوه في سنة 1250م وبذلك سقطت الدولة الأيوبية.

 

عهد الدولة المملوكية

أطلق لقب المماليك على الرقيق الأبيض الذين خدموا في الجيوش الإسلامية وجلهم من الترك والصقالبة وبلاد ما وراء النهرين ووسط آسيا وكان أول من استعملهم الخلفاء العباسيين ثم اعتمدوا عليهم كلياً في حمايتهم وكان نتيجة ذلك أن استفحل أمرهم وصاروا المتحكمين في شؤون الخلافة بل وفي تولية الخليفة نفسه وعزله، كذلك تأسست عدد من الدويلات ذات العنصر التركي المملوكي التابعة اسمياً للخلافة العباسية ومنها الدولة الطولونية والإخشيدية ومن بعدهما الدولة الفاطمية والأيوبية حيث إتّخذ المماليك كجند لهما وفي عهد الملك نجم الدين أيوب زاد عددهم حتى صار كامل الجيش وبطانة الملك منهم وأطلق عليهم المماليك البحرية وبعد مقتل توران شاه اتفق المماليك على اختيار شجر الدر سلطانة على مصر والتي كانت جارية ذات أصل أرميني أعتقها نجم الدين أيوب وتزوجها، لذا يعتبرها البعض أول سلاطين المماليك البحرية وأول سلطانة تتولى أمور المسلمين.

لَقِيَ تولي شجر الدر مقاليد الحكم معارضة شديدة من الداخل والخارج، لاسيما كونها امرأة، فانفصل الأيوبيون في بلاد الشام عن حكمها ورفضوا الاعتراف بها وناصبوها العداء هي والمماليك البحرية، حاولت شجر الدر التقرب من الخلافة العباسية ولقبت نفسها بالمستعصمية إلا أن الخليفة العباسي المستعصم عارض هو الآخر حكمها فلم يجد المماليك البحرية مناصاً إلا بوجوب التغيير، فطلبوا من شجر الدر الزواج من الأتابك (قائد الجيش) الأمير عز الدين أيبك والتنازل له عن السلطة فوافقت ولما علم الأمراء الأيوبيين بذلك رفضوا أن يتولى عرش مصر أحد المماليك من غير البيت الأيوبي فساروا بجيوشهم نحوها وفشلت محاولة عز الدين أيبك إشراك أحد أمراء البيت الأيوبي وكان صبياً في حكم السلطنة وقد وصلت جيوش الأيوبيين إلى بلبيس لكنهم هزموا هناك وانقلبت الآية بمحاولة عز الدين أيبك نفسه غزو الشام ولما رأى الخليفة المستعصم تفاقم النزاع بين الطرفين أرسل إلى أمراء بني أيوب يأمرهم بمصالحة عز الدين أيبك خاصة وأن خطر الغزو المغولي بات يلوح في الأُفُق، فوافق الطرفان على الصلح.

كان المغول قد اجتاحوا وسط آسيا وأسقطوا الدولة الخوارزمية وتطلعوا إلى الخلافة العباسية وبلاد الشام، فكان أن حاصروا بغداد بقيادة هولاكو حتى سقطت في سنة 1258 فنهبوها وحرقوها و أعملوا القتل في أهلها وفعلوا فيها الفظائع وقُبض على الخليفة المستعصم وسجن بلا طعام حتى مات جوعاً، توجهت بعدها جيوش المغول إلى بلاد الشام مع استسلام الكثير من أمرائها ومهادنتهم لهولاكو كذلك حظى المغول بدعم إمارة أنطاكية الصليبية ومملكة قيليقية الأرمينية.

أما في مصر، خلال تلك الأحداث أن قُتل عز الدين أيبك على يد بعض غلمانه بتحريض من شجر الدر نتيجة رفضه تدخلاتها في شؤون الحكم وقُتلت شجر الدر بعده على يد جواري زوجة عز الدين أيبك الأخرى التي أرادت الانتقام لموت أيبك وتولى ابنها نور الدين علي حُكم السلطنة وهو ذو خمسة عشر عاماً، لكن نتيجة الخطر المغولي قرر سيف الدين قطز أحد أقوى مماليك عز الدين أيبك عزل السلطان الصغير وتولى إدارة البلاد بدلاً منه ولما وصله رُسُل المغول برسالة من هولاكو يأمره بالإذعان والاستسلام، أمر بضرب رؤوسهم وتعليقها على باب زويلة وخرج بجيشه قاصداً غزة والتي كان المغول قد وصلوا إليها بعدما استولوا على أغلب بلاد الشام وفي تلك الأثناء عهد هولاكو إلى نائبه كُتبُغا بقيادة الجيش المغولي بعدما علم بوفاة الخاقان الأعظم ملك المغول وفي سنة 1260م تقابل الطرفان في عين جالوت بفلسطين حيث هزم المماليك جيش المغول وأبادوه على بكرة أبيه وكان من بين القتلى كُتبُغا نفسه ثم طارد قطز فلول المغول في باقي بلاد الشام حتى حررها منهم.

وفي نفس السنة قتل أحد الأمراء المماليك ويدعى بيبرس البندقداري السلطان قطز واغتصب حكم السلطنة ولمحاولته الحصول على شرعية لحكمه أن حاول إحياء الخلافة العباسية، فاستقدم أحد الأمراء العباسيين إلى القاهرة وبايعه بالخلافة فيما أقره الخليفة العباسي الجديد سلطاناً على مصر وأنحائها، اتجه بعدها بيبرس إلى توسيع دائرة حكمه فضم الحجاز وغزا النوبة وعزز تأمين حركة التجارة في البحر الأحمر بغزو سواكن وأرخبيل دهلك وتحالف مع مغول القبيلة الذهبية لضمان استمرار تدفق تجارة المماليك إلى البلاد، كذلك عزم على استرداد مدن الشام الواقعة تحت سيطرة الصليبيين وخاصة في إمارة أنطاكية واستطاع استرداد عدة مدن قيسارية ويافا والرملة ولما ضمن عدم تدخل المغول إلى جانب الصليبيين أو الأرمن نتيجة صراعاتهم الداخلية، هاجم مملكة قيليقية الأرمينية في 1266م وأوقع بالأرمن عدة هزائم ودمر مدنهم وفي 1268م استطاع فتح أنطاكيا، كما حاول غزو جزيرة قبرص لمهاجمة ملكها سفن المسلمين في البحر المتوسط إلا أنه فشل في ذلك فاستكمل جهوده في محاربة الصليبيين وقضى على آخر معاقل طائفة الحشاشين في بلاد الشام وفي سنة 1276م غزا بيبرس الأناضول وأوقع هزيمة كبرى بالمغول وأمراء السلاجقة المتحالفين معهم ودخل قيصرية ولم يلبث أن مات في العام التالي.

تولى الحكم من بعده أبناؤه تباعاً وكانا صغيرين لذلك أصبح الأمير قلاوون الألفي وصياً على الحكم والذي استطاع الاستئثار بالحكم وعزل ابن بيرس “بركة” من عرش السلطنة كما تخلص من المماليك التابعين لوالده، استطاع قلاوون تأسيس السلالة القلاوونية التي خرجت عن قاعدة عدم توريث الحكم لأبناء السلطان التي يؤمن بها المماليك وخلال حكم السلالة القلاوونية شهدت دولة المماليك قمة مجدها.

لقب قلاوون نفسه بالسلطان المنصور واستطاع التخلص من المماليك الظاهرية التابعة لبيبرس والقضاء على الفتن والثورات التي هددت عرشه ونتيجة ذلك أن استقدم المماليك الجراكسة بكثرة والذين عرفوا لاحقاً باسم المماليك البرجية لكونهم أقاموا في أبراج قلعة القاهرة وبعدما استتبت الأمور الداخلية، توجه المنصور قلاوون لمواجهة خطر المغول الإيلخانيين الذين استغلوا وفاة بيبرس وهاجموا بلاد الشام ومنعاً لتدخل الصليبيين إلى جانب المغول عقد المنصور قلاوون صلحاً معهم مدته عشر سنوات، ثم التقى بجيش المغول ومعهم الملك ليو الثالث ملك قيليقية الأرميني في حمص سنة 1281م وهزمهم شر هزيمة، عجّل هذا النصر بخطة قلاوون الثانية وهي القضاء على آخر معاقل الصليبيين رغم الصلح معهم فهاجم قلعة المرقب واستولى عليها في 1285 ثم اللاذقية في 1288م وأخيراً حاصر طرابلس حتى سقطت في 1289 ولم يبق للصليبيين في بلاد الشام سوى عكا وما حولها وحينما خرج المنصور قلاوون لغزوها توفي في الطريق سنة 1290م وخلفه ابنه الأشرف صلاح الدين خليل فزحف عليها وحاصرها حتى سقطت في 1291م وهدم حصونها واستكمل فتح باقي المدن حولها وأجلى الصليبيين عنها ولم يبق لهم موطأ قدم في بلاد الشام وبذلك انتهت الحروب الصليبية.

بعد مقتل الأشرف خليل في 1293م دخل المماليك في دائرة صراع على السلطة انتهت بتولي أخيه الناصر محمد بن قلاوون وفي 1299م هاجم مغول الإلخانات (بعدما تحولوا إلى الإسلام) بقيادة محمود غازان بلاد الشام مجدداً واستطاعوا هزيمة المماليك هذه المرة في معركة وادي الخزندار قرب حمص، دخل المغول على أثرها دمشق مما أثار حزن السلطان فجهز جيشه من جديد ونجح في استرداد دمشق ووافق على طلب غازان الصلح لكنه هاجم حلفائه المتمثلين في مملكة أرمينيا والصليبيين في جزيرة أرواد وفي 1303م هزمت جيوش المماليك بقيادة محمد بن قلاوون تحالف مغولي-أرميني-صليبي في معركة مرج الصُّفر ومنذ ذلك الحين انتهى خطر المغول على بلاد الشام ويُعد الناصر من أطول من استمروا في الحكم من السلاطين المماليك.

بوفاة الناصر في 1341م دخلت البلاد في حالة اضطراب سياسي كانت إيذاناً بنهاية سلالة المماليك البحرية والسلالة القلاوونية، فالبرغم من أن الحكم استمر في أسرة قلاوون إلا أن خلفاء الناصر كانوا حكاماً ضعافاً حكموا اسمياً لفترة وجيزة فتولى أبناء الناصر الثمانية الحكم تباعاً وأربعة من أحفاده خلال فترة أربعين سنة وفي 1349م ضرب الطاعون الأسود مصر فمات خلق كثير وتدهورت الأحوال الاقتصادية، استغل ملك قبرص حالة الفوضى والتنافس بين المماليك فأرسل أسطولاً في 1365م هاجم الإسكندرية وعاث فيها فساداً ونهباً ثم انسحب منها ومعه آلاف الأسرى.

في عام 1382م خلع الظاهر سيف الدين برقوق آخر سلاطين الأسرة القلاوونية ونصب نفسه سلطاناً فكان أول سلطان في سلالة المماليك البرجية الجراكسة، عمل برقوق على التخلص من المماليك البحرية الأتراك ومع ذلك كانت المؤامرات تحاك ضده باستمرار حتى نجحت إحداها في عزله ونفيه للكرك، لكنه استطاع الهرب وجمع جيشاً هزم به المتآمرون وخلال عهده ظهر خطر تيمورلنك التتري فتحالف مع الدولة العثمانية و مغول القبيلة الذهبية ضده واستعد لقتاله لكنه توفى وتولى ابنه فرج حكم السلطنة الذي رضخ لمطالب تيمورلنك بعد عدة مناوشات انتهت بدخول تيمورلنك دمشق ونهبها، إلا أن تيمور ما لبث أن توفي وكنتيجة لتخاذله عزل المماليك فرج وولوا أخاه الذي قُتل في 1412م لسوء سلوكه مع الأمراء.

دخلت البلاد بعدها في حالة من الفوضى والصراع السياسي مجدداً لم تنتهي إلا بتولي السلطان برسباي الحكم الذي تميز عهده بالشدة ورفع الضرائب ومع ذلك غزا قبرص ثلاث مرات وأسر ملكها يانوس ولاحقاً أُطلق سراحه مقابل دفعه جزية سنوية.

كان الضعف قد دب في السلطنة المملوكية التي تعرضت لموجات من الطاعون والأزمات الاقتصادية في ظل صراع الأمراء المماليك على الحكم إضافة إلى ذلك بزوغ خطر البرتغاليين الذين اكتشفوا طريق رأس الرجاء الصالح وتحول طرق التجارة عبره بدلاً من المرور عبر البحر الأحمر وانتهت محاولات المماليك وقف التمدد البرتغالي في الهند بهزيمة أسطولهم في معركة ديو 1509م وفي نهاية عصر الدولة المملوكية دخلت الدولة العثمانية التي تحولت توسعاتها نحو الشرق بدلاً من بلاد البلقان في صراع مرير مع الدولة الصفوية، وقف خلالها المماليك موقف المتفرج ورفضوا دعوة العثمانيين للتحالف معهم ضد الصفويين مما عده العثمانيين موقفاً عدائياً ولما اعتلى سليم الأول عرش الدولة العثمانية استطاع إلحاق الهزيمة بالدولة الصفوية وغزو أراضيها ثم تطلع لضم الشام فتصدى له السلطان قنصوه الغوري لكنه هُزم وقُتل في معركة مرج دابق بسوريا في 1516م وخلفه طومان باي الذي رفض مطالب سليم الأول المتمثلة في الاعتراف بسيادة العثمانيين ودفع جزية سنوية، فما كان من سليم الأول إلا أن زحف إلى مصر والتقى جيشه المسلح جيداً بالمدافع مع جيش المماليك في الريدانية حيث هزمهم في 1517م ووقع طومان باي في الأسر لاحقاً وأُعدم على باب زويلة وبذلك دخلت مصر تحت الحكم العثماني.

 

تاريخ مصر الحديث

العصر العثماني

أصبحت مصر إيالة (ولاية) عثمانية منذ 1517م وقد احتفظ العثمانيون بالمماليك كقوة سياسية حاكمة تابعة لهم مع حكم شبه ذاتي محدود والذين كونوا طبقة أرستقراطية إقطاعية وتولوا منصب شيخ البلد كمشاركة في الحكم مع الوالي العثماني الذي لم تكن فترة حكمه تزيد على ثلاث سنوات وأقل من ذلك حتى لا ينفصل بحكم مصر عن الدولة العثمانية وبالرغم من تبعيتها للدولة العثمانية فقد حاول المماليك الاستقلال عنها ولعل أبرز تلك المحاولات محاولة على بك الكبير مستغلاً الحرب الروسية التركية (1768 – 1774) فطرد الوالي العثماني ونجح في غزو الحجاز والشام لكن بسبب خيانة قائد جيشه محمد أبو الدهب فقد اتفق مع الباب العالي على محاربة علي بك واسترجاع الأراضي المصرية للدولة العثمانية مقابل منصب شيخ البلد، فرجع إلى القاهرة وهزم قوات علي بك الذي توفي بعدها بعدة أيام، كانت الخيانة والدسائس والمؤامرات والصراعات بين المماليك هي السمات التي أدت لسقوط ملكهم وقد ظل النفوذ المملوكي حاضراً في الحياة السياسية المصرية حتى سنة 1811م عندما تخلص منهم محمد علي في مذبحة القلعة الشهيرة وبالإضافة إلى ذلك كانت تمردات العساكر العثمانية على الوالي التي وصلت إلى حد قتله أمر يجعل من الصعب حكم مصر واستمر التنافس المملوكي العثماني على الحكم حتى مجيء الحملة الفرنسية.

كانت الحملة الفرنسية على مصر وسوريا (1798-1801) جزءاً من الحروب الثورية الفرنسية، هدُفت الحملة التي كانت بقيادة نابليون بونابرت إلى تأمين المصالح الفرنسية بإحتلال مصر لمنع إنجلترا من الوصول إلى مستعمراتها في الهند وإنشاء مستعمرة تكون قاعدة لتمدد فرنسي في شمال أفريقيا، أبحر نابليون بأسطوله سراً من ميناء طولون واستولى في طريقه على جزيرة مالطة ووصل إلى الإسكندرية في 1 يوليو 1798م، معلناً أنه جاء ليخلّص المصريين من ظلم البكوات المماليك واسترجاع سلطة الباب العالي وأنه يحترم القرآن والنبي محمد، هذه الأهداف الدعائية المعلنة لم تلق بالاً لدى المصريين ولقي نابليون مقاومة من أهالي الإسكندرية بزعامة حاكمها محمد كريم إلا أنه نجح في الاستيلاء عليها واستكمل زحفه نحو القاهرة، فهزم جيش المماليك بقيادة مراد بك بسهولة في معركة شبراخيت، ثم وقعت معركة الأهرام (معركة إمبابة) الفاصلة في 21 يوليو 1798م بين الجيش الفرنسي المتفوق عسكرياً وبين قوات المماليك بقيادة كلاً من مراد بك وإبراهيم بك وحقق الفرنسيون انتصاراً كاسحاً، ضمنوا به دخولهم القاهرة وفيما أرسل نابليون أحد قادته الجنرال ديزيه لمطاردة مراد بك الذي فر إلى الصعيد، طارد بنفسه إبراهيم بك الذي كان يحاول الفرار إلى سوريا ونجح في هزيمته عند الصالحية وعاد إلى القاهرة بعدما سمع بالفاجعة التي حلت بالأسطول الفرنسي الراسي في الإسكندرية.

كان الأسطول البريطاني بقيادة نيلسون يبحث عن الأسطول الفرنسي عبر البحر المتوسط حتى اكتشفه راسياً في خليج أبي قير بالإسكندرية، فباغته بالهجوم في معركة تعرف باسم “معركة النيل” أو “معركة أبي قير البحرية” واستطاع هزيمته وأسر وتدمير معظم سفنه، شكلت هذه الهزيمة ضربة موجعة لتطلعات نابليون لاسيما وأن القوة الفرنسية أصبحت محاصرة داخل مصر وانقطعت عنها الإمدادات من فرنسا.

عمل نابليون بعدها على توطيد سياسته في مصر على النمط الغربي وأنشأ بعض المؤسسات مثل المجمع العلمي كذلك أصدر صحيفتين وحاول التقرب من المصريين بالاحتفال معهم بالمولد النبوي لكن كل ذلك لم يغير نظرة المصريين تجاه الاحتلال الفرنسي وأدت الضرائب الباهظة التي فرضها الفرنسيون إلى ثورة القاهرة الأولى، انتفض القاهريون في وجه الفرنسيين وقتلوا دوبوي حاكم القاهرة وأقاموا المتاريس، لكن نابليون استطاع سحق الانتفاضة بقوة مدافعه واقتحمت خيوله الجامع الأزهر وقبض على زعماء الثورة وأعدموا وفرضت ضرائب باهظة مجدداً.

بعد تمكنه من قمع ثورة القاهرة، علم نابليون بتحركات الدولة العثمانية لاستعادة البلاد بإرسالها جيشين، واحد عبر الشام والآخر عبر جزيرة رودس فقرر المسير لملاقاة الجيش العثماني المتقدم عبر بلاد الشام ونجح في حصار قلعة العريش التي استسلمت له حاميتها ثم توجه نحو يافا وحاصرها حتى سقطت وارتكب مذبحة بحق حاميتها، كذلك استطاع هزيمة الجيش العثماني في موقعة جبل طابور في 16 أبريل 1799م لكنه فشل في الاستيلاء على عكا لقوة تحصيناتها و بسالة مدافعي المدينة بقيادة أحمد باشا الجزار ومعاونة الأسطول البريطاني، كان لفشل الهجمات الفرنسية المتكررة على عكا إضافة إلى مرض الطاعون الذي تفشى بين عدد من الجنود الفرنسيين خلال حصار يافا وقدوم تعزيزات عسكرية عثمانية بحراً أن قرر نابليون ضرورة الانسحاب إلى مصر وقفل راجعاً إليها.

كان الجنرال ديزيه يواجه حرب عصابات يقودها مراد بك في الصعيد وفشل في الإمساك به وتعاون كلاً من مراد بك وإبراهيم بك في شن هجوم مشترك على القاهرة لكنهما هُزما وفي أثناء ذلك وصل أسطول عثماني إلى الإسكندرية وهبط الجنود العثمانيون بقيادة مصطفى باشا في أبي قير، إلا أن نابليون نجح مجدداً في هزيمة الجيش العثماني وأسر مصطفى باشا وعاد إلى القاهرة بالأسرى العثمانيين منتصراً، استدعت الأحداث السياسية في فرنسا أن يغادر نابليون سراً بعدما عهد بالقيادة إلى الجنرال كليبر.

كان كليبر يرى أن بقاء الحملة أمراً مستحيلاً فاتفق مع مراد بك على ترك حكم الصعيد له تحت السيادة الفرنسية وتفاوض مع العثمانيين والإنجليز بشأن الجلاء عن الأراضي المصرية عبر اتفاقية العريش في بداية 1800م لكن بريطانيا رفضتها وأرسل العثمانيون جيشاً هزمه كليبر في موقعة هليوبوليس، كذلك قمع انتفاضة القاهرة الثانية وفي 14 يونيو 1800م اغتاله شاب سوري يدعى سليمان الحلبي بطعنة نافذة في القلب وتولى الجنرال مينو القيادة بديلاً عنه والذي كان على عكس كليبر طموحاً ويرى بوجوب بقاء الحملة الفرنسية في مصر، فأعلن إسلامه وتزوج من امرأة مصرية كمحاولة للتقرب للمصريين، لكن الإنجليز حطموا آماله عندما حاصروا الإسكندرية وهزموا الجيش الفرنسي عندها ثم حاصروا الحامية الفرنسية عند حصن جوليان حتى استسلمت وتقدموا نحو القاهرة وحاصروها مدعومين بقوة عثمانية ولم يجد مينو مفراً من الاستسلام كذلك انتهى الأمر باستسلام الحامية الفرنسية في الإسكندرية وبذلك انتهت الحملة الفرنسية على مصر والشام بجلائها في سبتمبر 1801م، ثم جلت الجيوش البريطانية عنها في 1803م بموجب معاهدة أميان وبذلك عادت مصر مجدداً إلى حظيرة الدولة العثمانية، كان من أبرز مجهودات العلماء الفرنسيين الذين قدموا مع الحملة، اكتشاف حجر رشيد وفك رموزه على يد شامبليون وبذلك استطاع العالم التعرف على الحضارة المصرية القديمة، مثلت الحملة الفرنسية أيضاً صدمة حضارية للمصريين الذين ظلوا تحت قرون طويلة من الجهل والاستعباد والانقطاع عن العالم نتيجة صراعات المماليك والعثمانيين.

 

عهد محمد علي

أسرة محمد علي

عقب رحيل الحملة الفرنسية عن البلاد تجدد الصراع المملوكي العثماني على السلطة، كان محمد علي أحد قادة الجنود الألبان الذين قدموا مع العثمانيين لطرد الفرنسيين يراقب هذا المشهد ويستغله لصالحه فنجح في تأليب الفريقين على بعضهما واستطاع استمالة الشعب المصري حتى صدر مرسوم من الباب العالي يقره والياً على مصر في 1805م وتجدد هذا المرسوم في 1806م وكان أول خطر خارجي يواجه محمد علي باشا لدى توليه الحكم، هو الحملة الإنجليزية بقيادة فريزر في 1807م لكن الأهالي استطاعوا هزيمتها واضطرت الحملة للجلاء بعد أن كانت تعتقد أن المماليك سيمدون يد العون لها.

بادر محمد علي بالتخلص من زعماء الحركة الشعبية الذين كان لهم الفضل في نصبه والياً وذلك بنفي نقيب الأشراف عمر مكرم إلى دمياط في 1809م ولما استشعرت الدولة العثمانية تنامي قوة محمد علي، أوكلت إليه مهمة القضاء على الحركة الوهابية في بلاد الحجاز.

خشي محمد علي إذا خرج من البلاد أن يستولي المماليك على السلطة فعزم على التخلص منهم فدعا زعمائهم لحضور حفل خروج الحملة المصرية إلى بلاد الحجاز بقيادة ابنه طوسون في القلعة وبعد انتهاء الحفل، أمر جنوده فأوصدت أبواب القلعة عليهم وفتك بهم الجنود فيما عرف باسم مذبحة القلعة في 1811م وبذلك انتهى دور المماليك كقوة سياسية، استطاع محمد علي أيضاً التخلص من جنوده الألبان والأرناؤوط الثائرين بإرسالهم إلى الحملة المتجهة إلى بلاد الحجاز التي استمرت سبع سنوات (1811- 1818) انتهت بتحقيق النصر على الوهابيين وضم الحجاز إلى حكم محمد علي، الذي أرسل حملة إلى السودان (1820- 1824) نجحت في ضمها إلى إيالة مصر.

كان محمد علي باشا يطمح في تحويل مصر إلى دولة حديثة على غرار الدول الأوروبية لذلك يعتبره المؤرخين مؤسس مصر الحديثة بل أن بعضهم يشير إلى بداية توليه الحكم بأنه بداية العصر الحديث فيها، فهو أول من أرسل البعثات التعليمية للخارج وبنى المدارس والمصانع وترسانة في الإسكندرية لبناء أسطول مصري قوي وبذل مشاريع إصلاحية في الزراعة والصناعة وهو أول من أسس جيش مصري حديث قوامه من الفلاحين المصريين في 1820م بدلاً من الاستعانة بالألبان أو السودانيين وعهد بتدريبه إلى الكولونيل سليمان باشا الفرنساوي أحد ضباط الحملة الفرنسية الذي ظل في البلاد وهو الجيش الذي حقق انتصارات باهرة في حرب المورة في 1825م بقيادة ابن محمد على، إبراهيم باشا، حيث كان الثوار اليونانيين يأملون في الانفصال عن الدولة العثمانية وحينذاك طلبت الدولة العثمانية مساعدة محمد علي مجدداً، لكن الدول الأوروبية ممثلة في بريطانيا وروسيا وفرنسا تحالفت مع الثوار واستطاعت أساطيلها إلحاق الهزيمة بالأسطول المصري والعثماني في معركة نافارين 1827م مما تسبب في تدمير الأسطول المصري تماماً.

لم يخرج محمد علي من حرب المورة بأي مكتسبات إلا فقدان أسطوله وبالرغم من وعود السلطان العثماني محمود الثاني بإعطائه ولاية الشام كمكافأة إلا أنه خالف وعده وقرر استبدالها بجزيرة كريت كتعويض عن خسائر حرب المورة، كان محمد علي يطمع لضم بلاد الشام لما لها من امتيازات وأهمية كبيرة لتوطيد دعائم حكمه في مصر وزاد الشقاق بينه وبين الدولة العثمانية التي خشت من توسعاته فقد أخذ في افتعال الأزمات مع والي عكا عبد الله باشا مثل طلبه رد الفلاحين المصريين المتهربين من الجندية ولما رفض والي عكا طلب محمد علي، أرسل الجيش المصري بقيادة ابنه إبراهيم باشا في 1831م الذي نجح في الاستيلاء على أغلب مدن سواحل الشام وفرض حصاراً على عكا وفي أثناء ذلك هزم جيشاً عثمانياً جاء لمحاربته وسقطت عكا التي استعصت على نابليون من قبل في يد الجيش المصري في 28 مايو 1832م وأُسر عبد الله باشا وأُرسلّ إلى القاهرة ثم سار الجيش المصري إلى دمشق واستولى عليها.

أصدرت الدولة العثمانية فرماناً بعصيان محمد علي باشا وخيانته وأرسلت جيشاً عثمانياً لقي هزيمة كبيرة في موقعة حمص على يد الجيش المصري واستكمل الجيش المصري زحفه ومطاردة العثمانيين فاستولى على حماة وحلب ووصل إلى ولاية أضنة وطرسوس في الأناضول عقر دار العثمانيين، أرسل السلطان محمود الثاني جيشاً عثمانياً كبيراً لمواجهة الزحف المصري لقي هزيمة ساحقة في معركة قونية وبذلك أصبح الطريق مفتوحاً نحو الآستانة عاصمة الخلافة العثمانية أمام الجيش المصري، أجبرت تلك الهزيمة السلطان العثماني على الاستنجاد بالدول الأوروبية التي ضغطت على محمد علي من أجل التفاوض مع السلطان وانتهت تلك المفاوضات باتفاقية كوتاهية في 1833م التي قضت بانسحاب محمد علي في الأناضول مقابل السماح له بضم الشام والاحتفاظ بكريت وولاية جدة، لم تكن تلك الاتفاقية سوى محاولة للتهدئة بين الطرفين فقد اشتعلت الحرب مجدداً بينهما بعد ست سنوات وخلال تلك الفترة واجه محمد علي صعوبات جمة في بلاد الشام مثل تمردات الفلاحين الشوام والدروز التي واجهها بالقمع والتنكيل واستغل السلطان العثماني ذلك في تجهيز جيوشه لاستعادة السيطرة على بلاد الشام وفي 1839م اشتبك الجيش المصري مع الجيش العثماني في معركة نزيب وهزمه هزيمة ساحقة وتوفي السلطان محمود قبل أن يصله نبأ هزيمة الجيش العثماني وتولى ابنه عبد المجيد الأول الخلافة، كذلك أبحر الأسطول العثماني إلى الإسكندرية واستسلم لمحمد علي .

تدخلت الدول الأوروبية مجدداً لفرض شروطها على محمد، ففرضت حصاراً بحرياً على بلاد الشام وقصفت البحرية البريطانية صيدا وعكا ولم يستطع إبراهيم باشا منع الإنزال العسكري الإنجليزي-التركي على ساحل سوريا وأمام هذه الضربات وافق محمد علي على شروط معاهدة لندن 1840م التي بمقتضاها تنازل عن بلاد الشام فيما عدا ولاية عكا التي سيحكمها حتى مماته فقط، كذلك التنازل عن كريت والحجاز وتقليص أفراد الجيش المصري مع إقرار الدولة العثمانية بجعل حكم مصر والسودان وراثياً في أبنائه وأسرته من بعده وفي 1848م أصيب محمد علي بمرض الخرف ولم يعد قادراً على إدارة البلاد فتولى ابنه إبراهيم باشا ولاية مصر مكانه لكنه توفى في نفس العام ولحقه والده في العام التالي.

بعد وفاة إبراهيم باشا خلفه ابن أخيه طوسون، عباس حلمي الأول الذي حكم لخمس سنوات حكماً استبدادياً وتراجعت مصر في عهده ومما ينسب له إنشاء أول خط سكة حديد بين القاهرة والإسكندرية والذي كان أول خط سكة حديد في أفريقيا وخلال عهده اشتركت مصر في حرب القرم إلى جانب الدولة العثمانية ضد الإمبراطورية الروسية وفي 1854م قُتل عباس الأول في قصره في بنها وأطلق اسمه على منطقة العباسية الحالية وقد تولى الحكم عمه محمد سعيد باشا (1854- 1863) الابن الرابع لمحمد علي، اهتم سعيد بالزراعة والفلاح المصري وأسس بنك مصر وقصّرَ فترة التجنيد على أبناء الشعب المصري كما بعث تجريدة عسكرية للاشتراك في حرب المكسيك إلى جانب فرنسا بناءاً على طلب من الإمبراطور نابليون الثالث، أحد أبرز أعماله منحه حق امتياز حفر قناة السويس للمهندس الفرنسي فرديناند ديليسبس وأطلق اسمه بعد ذلك على ميناء بورسعيد ونتيجة وفاة وريثه أحمد رفعت في حادث عربة قطار كان يستقلها سقطت في النيل في كفر الزيات، أصبح شقيقه إسماعيل باشا حاكماً على مصر بعد وفاة سعيد وفي عهده شهدت البلاد تقدماً كبيراً عن سابقيه.

 

الخديوية المصرية

أراد إسماعيل خلال فترة حكمه (1863 – 1879) جعل مصر قطعة من أوروبا حيث تأثر بالحضارة الأوروبية خلال دراسته في باريس، وفي 1867م أصبحت مصر خديوية بعدما صدر فرمان من السلطان العثماني بمنح إسماعيل وورثته من بعده لقب خديوي مقابل زيادة سنوية في الأموال المرسلة إضافة إلى الرشاوى إلى الدولة العثمانية، أجرى الخديوي إسماعيل حزم من المشاريع والإصلاحات في مختلف المجالات الاقتصادية والقضائية والتعليمية والعمرانية، فتوسع في إنشاء قنوات الري ومد خطوط السكك الحديدية والتلغراف وبناء المدارس وأعاد إرسال البعثات التعليمية للخارج واستقدم المعماريين من فرنسا وإيطاليا لتخطيط القاهرة على غرار المدن الأوروبية فأنشأ القصور و مسرح دار الأوبرا والميادين وانتقل من قلعة الجبل التي ظلت لقرون مقراً للحكام إلى قصر عابدين الفخم ليكون مقره الجديد، كما بنى مصانع السكر والقطن وفي مجمل الأوقات طغى طابع الإسراف والتبذير على فترة حكمه والذي جعل إسماعيل يتوسع في سياسة الاقتراض من بيوت المال الأوروبية وعند إتمام حفر قناة السويس في 1869م دعا إسماعيل ملوك وأمراء وكبار الشخصيات الأوروبية لحضور حفل افتتاح قناة السويس الذي تميز بالبذخ واقترض إسماعيل من أجله مليون دولار.

تطلع الخديوي إسماعيل إلى أن يسير على خطى جده محمد علي باشا في سياساته التوسعية، فأرسل جيشه جنوباً للسيطرة على ساحل البحر الأحمر الأفريقي لكنه اصطدم بإمبراطورية الحبشة وتعرض جيشه للهزيمة، أثقلت تكاليف هذه الحملة الخاسرة الخزانة المصرية التي كانت تعاني من أزمة القروض الأجنبية، كما أدت إلى تدخل الدول الأوروبية خاصة فرنسا وبريطانيا في الشؤون المصرية الداخلية، حيث أوفدت كلتا الدولتين مبعوثاً للرقابة على النظام المالي المصري وكان من نتائج ازدياد التدخل الأجنبي في الشأن المصري إنشاء المحاكم المختلطة التي كانت تحكم لصالح الأجانب على الأرض المصرية وفي النهاية أدت ضغوط فرنسا وبريطانيا إلى دفع السلطان العثماني إلى إصدار فرمان بعزل إسماعيل وتولية ابنه توفيق الحكم بديلاً عنه وقد أطلق اسمه على مدينة الإسماعيلية.

كان الخديوي توفيق (1879-1892) موالياً للتدخل الأجنبي في شؤون البلاد وأدى التمييز المتزايد لصالح الضباط الشراكسة في الجيش إلى سخط الضباط المصريين الذين تقدم ثلاثة منهم بقيادة عرابي إلى ناظر الجهادية (وزير الحربية) بعدة مطالب، فما كان منه إلا أن اعتقل الضباط الثلاث، لكن زملائهم المصريين خلصوهم وفي 9 سبتمبر 1881م توجه عرابي بهم إلى قصر عابدين حيث وجد الخديوي توفيق نفسه مضطراً لقبول مطالب الضباط المصريين، لاحقاً أصبح عرابي ناظراً للجهادية في وزارة محمود سامي البارودي، كانت بريطانيا تراقب تطورات الأوضاع في مصر ولما لاحظت قيام عرابي بتحصين مدينة الإسكندرية أرسلت أسطولها إلى هناك ووجهت إنذاراً بإيقاف عمليات التحصين وهو ما رفضه عرابي، فقصفت البوارج الإنجليزية مدينة الإسكندرية كمقدمة للاحتلال البريطاني لها في 1882م ونزل الجيش الإنجليزي إلى المدينة حيث لجأ الخديوي توفيق إلى قصر التين في حماية الإنجليز وحينما حاولوا التقدم إلى كفر الدوار تصدت لهم القوات المصرية وأجبرتهم على التراجع، فاضطروا للالتفاف من خلال قناة السويس، أراد عرابي ردم القناة لكن ديليسبس خدعه بأن القناة على الحياد ولا يمكن السماح باستخدامها لأغراض عسكرية ومع ذلك سمح للإنجليز بالمرور منها وأسرع عرابي في إقامة التحصينات المصرية لكنه هزم في معركة القصاصين ثم معركة التل الكبير وتراجع نحو العباسية وأُعلن في البلاد عن عصيان عرابي وسرعان ما تخلى عنه جنوده وقبض عليه الإنجليز وحُكم عليه بالإعدام ثم خُففّ الحكم إلى النفي لجزيرة سيلان (سريلانكا) والتي ظل بها حتى عاد منها في 1901م بعد صدور عفو عنه من الخديوي عباس حلمي الثاني.

عاد الخديوي توفيق إلى القاهرة وكان في استقباله السير جارنت ولسلي قائد القوات الإنجليزية وفي 1884م أصبح اللورد كرومر المندوب السامي البريطاني في البلاد، في غضون ذلك اندلعت الثورة المهدية في السودان بقيادة محمد أحمد المهدي ونجح أتباعه في هزيمة الإنجليز والاستيلاء أخيراً على الخرطوم وقتل جورج غوردون حاكم السودان وبعد تولي الخديوي عباس حلمي الثاني الحكم (1892-1914) والذي كان على خلاف أبيه توفيق يرفض التدخل الأجنبي في شؤون البلاد، أُرسلت قوة إنجليزية مصرية مشتركة بقيادة الجنرال هربرت كتشنر وضعت حداً للحرب المهدية ونجحت في السيطرة على السودان في 1899م، تحدى الخديوي عباس السياسات البريطانية في بداية عهده وكان مؤيداً للحركة الوطنية بزعامة مصطفى كامل مؤسس الحزب الوطني ومن بعده محمد فريد الذي عارض مد امتياز قناة السويس، أدت حادثة دنشواي التي وقعت في 1906م إلى تغيّر في السياسة البريطانية في مصر، فقد أدت محاكمة جائرة بحق بعض الفلاحين المصريين نتيجة وفاة ضابط بريطاني بضربة شمس بعد مطاردة الفلاحين المصريين له مع زملائه لتسببهم في إصابة امرأة وإشعال النيران في جرن قمح عندما كانوا يصطادون الحمام في قرية دنشواي بمحافظة المنوفية، حكمت محكمة مصرية بإعدام خمسة فلاحين وجلد وسجن آخرين ونفذ الحكم أمام أهالي القرية، أثارت هذه الحادثة استياءاً كبيراً واستبدلت بريطانيا اللورد كرومر بغيره بعد أن ظل في منصبه لأكثر من عشرين عام.

 

السلطنة المصرية

مع اندلاع الحرب العالمية الأولى في 1914م قطعت بريطانيا أي صلة بالدولة العثمانية مع مصر فعزلت الخديوي عباس حلمي الذي كان خارج البلاد لانحيازه إلى الإمبراطورية العثمانية والقوى المركزية واستبدلته بعمه حسين كامل الذي منحته لقب سلطان وأعلنت حمايتها للبلاد. لم يدم حكم السلطان حسين كامل طويلاً فقد توفي في 1917م وتولى فؤاد الأول الحكم مكانه وخلال الحرب جندت بريطانيا آلاف المصريين في فيلق الجمال الذي اشترك في معارك حملة سيناء وفلسطين كذلك اشترك في ميادين القتال في أوروبا عندما غزت القوات العثمانية سيناء ووصلت إلى قناة السويس لكن قوات المستعمرات البريطانية نجحت في صدها، كذلك صادرت بريطانيا الحبوب والدواب من الفلاحين وأعلنت الأحكام العرفية في البلاد ولما وضعت الحرب أوزارها في 1918م حاول بعض زعماء الحركة الوطنية المصريين على رأسهم سعد زغلول المشاركة في مؤتمر باريس للسلام في 1919م لعرض قضية استقلال مصر فما كان من السلطات الإنجليزية إلا أن اعتقلتهم ونفتهم إلى جزيرة مالطا ثم إلى جزيرة سيشل، اندلعت على أثر ذلك ثورة 1919م التي شاركت فيها كافة الأطياف المصرية المطالبة بالإفراج عن سعد وزملائه ولم تهدأ الأوضاع إلا بعد عودة سعد زغلول وزملائه من المنفى، تكللت جهود الحركة الوطنية بإلغاء بريطانيا الحماية على مصر بإعلانها دولة مستقلة وإلغاء الحماية البريطانية عليها من خلال تصريح 24 فبراير.

 

المملكة المصرية

أصبحت مصر مملكة مستقلة في 1922م لكنه كان استقلالاً شكلياً وأصبح فؤاد الأول يُلقب بملك مصر وصاحب السودان وكردفان ودارفور وفي 1924م فاز حزب الوفد الذي أسسه سعد زغلول في انتخابات تشكيل الحكومة بأغلبية ساحقة لكنه اضطر إلى الاستقالة بعد اغتيال السير لي ستاك الحاكم الإنجليزي العام على السودان وتوفي سعد زغلول في 1927م، عمل الملك فؤاد الأول على تحجيم دور البرلمان وتوسيع سلطاته وحل البرلمان عدة مرات و ألغى دستور 1923م واستبدله بدستور 1930م الذي قيد الحياة الديمقراطية حتى اضطر إلى إسقاطه والعودة إلى دستور 1923م بعد خمس سنوات نتيجة معارضة الحركة الوطنية ولما توفي في 1936م تولى ابنه فاروق الأول الحكم والذي كان حينها صغيراً لذلك كان حكمه تحت مجلس وصاية وقد تسلم البلاد في ظروف دولية تنذر بنشوب حرب عالمية ثانية، كانت إيطاليا قد غزت الحبشة في 1935م واضطرت بريطانيا إلى التفاوض مع الأحزاب والأطراف المصرية حتى خرجت بمعاهدة 1936م ولما وقعت الحرب العالمية الثانية أعلنت مصر الأحكام العرفية ولاحقاً قطعت علاقتها مع ألمانيا وإيطاليا لكنها بقيت على الحياد ولم تعلن الحرب على الدولتين إلا في سنوات الحرب الأخيرة، تدفقت قوات الإمبراطورية البريطانية لصد الغزو الإيطالي لمصر في 1940م كما تعرض السودان والصومال البريطاني لغزو مماثل ولما نجحت بريطانيا في صد الإيطاليين والتقدم نحو مستعمرتهم في ليبيا، أرسلت ألمانيا النازية أحد أبرز قادتها الجنرال إرفن روميل على رأس قوة عسكرية (الفيلق الأفريقي) لمساعدة حليفتها إيطاليا، كانت ألمانيا ترغب في الاستحواذ على قناة السويس وبذلك قطع طرق المواصلات البريطانية إلى مستعمراتها في الهند وجنوب شرق آسيا، حقق روميل نجاحات عسكرية باهرة دفع بها البريطانيين إلى داخل الحدود المصرية وعندما تقدمت القوات الألمانية البريطانية نحو الحدود المصرية، كان الملك فاروق يتصرف غير مبالياً وكذلك الجيش المصري الذي كان يرى الإنجليز كمحتلين وعقب حدوث أزمة وزارية حاصرت الدبابات البريطانية قصر عابدين فيما يُعرف بحادثة 4 فبراير 1942م حيث خُير فاروق على استدعاء زعيم حزب الوفد مصطفى النحاس أو التنازل عن العرش فقبل فاروق استدعاء النحاس، نجحت بعدها قوات الحلفاء بقيادة مونتجمري بهزيمة قوات المحور بقيادة روميل في موقعة العلمين 1942م في الصحراء الغربية المصرية، كانت مقدمة لسلسلة انتصارات بريطانية خلال حملة شمال أفريقيا انتهت باستسلام الجيش الإيطالي والألماني في تونس 1943م وبذلك زال الخطر عن الأراضي المصرية.

بعد أن وضعت الحرب أوزارها في 1945م، تبلورت فكرة القومية العربية وتأسست جامعة الدول العربية التي انضمت مصر لها كما انضمت للأمم المتحدة في نفس العام، كان على الدول العربية حينها التحالف معاً لمواجهة الخطر الصهيوني في فلسطين ومع إعلان دولة الكيان الصهيوني في 1948م دخلت الجيوش العربية في حرب فلسطين أو كما تعرف باسم النكبة أو حرب 48، حققت الدول العربية نجاحاً في بداية الحرب لكن بسبب ضعف جيوشها وعدم وجود خطة موحدة استطاعت العصابات اليهودية تحقيق النصر على الجيوش العربية واضطرت مصر على توقيع اتفاقية الهدنة في 1949م في أثناء ذلك كان المناخ العام المصري متلبداً بالغيوم، في 1951م أعلن النحاس باشا إلغاء اتفاقية 1936م واعتبار القوات الإنجليزية في منطقة القناة قوات احتلال، على أثر ذلك شن الوطنيين المصريين حرب عصابات ضدها، مدعومين من الشرطة المصرية، اقتحمت القوات الإنجليزية مقر الشرطة في الإسماعيلية في 25 يناير 1952م بعد رفض ضباطه تسليم أسلحتهم وأدى ذلك لاستشهاد نحو 50 شرطياً في اليوم التالي اندلع حريق القاهرة بعد مظاهرات احتجاجية على حادث الإسماعيلية حيث التهمت النيران العديد من الفنادق والمسارح ونواد السينما والمحلات وغيرها المملوك أغلبها للأجانب، كان هذا الحريق إضافة إلى الفساد الذي انتشر في الدولة وفساد الأحزاب واستمرار الوجود العسكري البريطاني إضافة إلى هزيمة فلسطين من العوامل التي أدت لقيام ثورة 23 يوليو 1952م حيث قامت مجموعة من الضباط المصريين عرفوا باسم الضباط الأحرار بقيادة البكباشي محمد نجيب بإرغام الملك فاروق بالتنازل عن العرش لابنه أحمد فؤاد الثاني ومغادرة البلاد وفي العام التالي أٌعلنت الجمهورية واختير محمد نجيب أول رئيس لها.

 

العصر الجمهوري

بعد إعلان الجمهورية وانتهاء حكم أسرة محمد علي الذي استمر لحوالي قرن ونصف من الزمان، رغب محمد نجيب في إقامة حكم مدني وعودة الجيش إلى ثكناته، لكن رغبته هذه تعارضت مع مجلس قيادة الثورة الذي أطاح به وعزله وفرض عليه الإقامة الجبرية وتولى جمال عبد الناصر رئاسة الجمهورية الوليدة والذي أخذ على عاتقه تخليص بلاده والشعوب العربية وغير العربية من الاستعمار الأجنبي والإمبريالية الغربية، فوقع اتفاقية الجلاء مع الإنجليز في 1954م و رحل آخر جندي إنجليزي منها في 18 يونيو 1956م ولما أراد بناء مشروع السد العالي في أسوان سحب البنك الدولي تمويله عن المشروع فأعلن تأميم قناة السويس شركة مساهمة مصرية وبهذا الإعلان إلى جانب دعمه للثورة الجزائرية ضد الاحتلال الفرنسي ومعارضة حكومتي فرنسا وبريطانيا لحكمه إضافة إلى محاولة الكيان الصهيوني غزو سيناء نتيجة أعمال المجاهدين الفلسطينيين المنطلقة من مصر وسعي جمال عبد الناصر إلى تسليح الجيش المصري من خلال صفقة الأسلحة التشيكية ورفض مصر حلف بغداد ومعارضتها انضمام أي دولة عربية إليه، كل هذه الأسباب أدت إلى بروتوكول سيفرز السري بين فرنسا وبريطانيا والكيان الصهيوني لغزو مصر.

في 29 أكتوبر 1956م اندفعت القوات الصهيونية نحو سيناء في خطة عسكرية عرفت باسم العملية قادش وفي اليوم التالي سلمت بريطانيا وفرنسا إنذاراً لمصر بسحب القوات المصرية إلى مسافة عشرة أميال غرب القناة لكن القوات المصرية رفضت الإنذار فبدأ العدوان الثلاثي عليها أو كما يعرف في الغرب “أزمة السويس”، بعد قصف بحري وجوي عنيف هبطت القوات الإنجليزية والفرنسية إلى بورسعيد واضطرت مصر إلى سحب قواتها من سيناء لمواجهتها ونتيجة معارضة الولايات المتحدة للعدوان الثلاثي وتلويح الاتحاد السوفيتي باستخدام القوة، اضطرت فرنسا وبريطانيا إلى سحب قواتها من بورسعيد في 22 ديسمبر بعد وصول القوات الدولية وفشل العدوان الثلاثي في تحقيق أهدافه كذلك انسحبت دولة الكيان الصهيوني من سيناء بعد ضمان حرية الملاحة في خليج العقبة، برغم الهزيمة العسكرية حققت مصر انتصاراً سياسياً كبيراً وارتفع شأن ناصر في العالم العربي وانتهى دور بريطانيا وفرنسا السياسي في المنطقة.

كان ناصر يؤمن بالقومية العربية والاشتراكية فتحالف مع سوريا لتشكيل دولة واحدة عٌرفَت باسم الجمهورية العربية المتحدة في 1958م وانتخب ناصر رئيساً لها لكن بسبب الضغوط الأجنبية وسياسات قائد الجيش المصري عبد الحكيم عامر وقع الانفصال بين الدولتين في 1962م بينما احتفظت مصر بإسم الجمهورية العربية المتحدة حتى 1971م، شجعت سياسات ناصر الثورية على قيام عدة ثورات عربية مثل ثورة تموز في العراق 1958م وثورة اليمن 1962م وثورة الفاتح في ليبيا 1969م كذلك شجع ناصر عمليات التحرير والاستقلال في دول أفريقيا وآسيا حتى أنه أرسل قوات من الجيش المصري إلى اليمن لمعاونة الثوار الجمهوريين ضد القوات الملكية وكان من أبرز زعماء حركة عدم الانحياز.

أجرى ناصر عدة مشاريع اقتصادية كبرى مثل بناء مصانع الحديد والصلب في حلوان والسد العالي في أسوان وإنشاء الهيئة العربية للتصنيع وشهدت البلاد تقدماً صناعياً وفكرياً في مجال الفن والسينما والمسرح لكن تدخله في حرب اليمن وتأمين الممتلكات الغربية وطرد الأجانب وتصدير الأفكار الناصرية والثورية وسياسة القمع الداخلية والمحاباة داخل الجيش كذلك الهزائم العسكرية في حرب 56 و67 وانفصال السودان في 1956م تحسب عليه ضمن أخطاءه الفادحة.

بعد قراره المتعجل إغلاق خليج العقبة وسحب القوات الدولية من سيناء دون دراسة، شن الكيان الصهيوني هجوماً جوياً على مطارات دول مصر والأردن وسوريا في 5 يونيو 1967م وفي غضون ساعات تحطمت الأفرع الجوية الثلاثة لهذه الدول على الأرض وفي خلال ستة أيام نجح الكيان الصهيوني في احتلال القدس الشرقية والجولان وقطاع غزة إضافة إلى سيناء بعد قرار قائد الجيش المصري عبد الحكيم عامر بسحب الجيش المصري منها دون خطة وانتهت الحرب بآلاف القتلى والأسرى وضياع سيناء، أعلن ناصر تنحيه عن الحكم وتحمله مسؤولية الهزيمة لكنه عاد إلى الرئاسة تحت ضغط جماهيري بينما أنتحر عامر بعد إجهاض محاولته الانقلاب على ناصر وطوال ثلاث سنوات دخلت في حرب استنزاف مع الكيان الصهيوني بمساعدة الاتحاد السوفيتي ضمن إطار الجهود المبذولة لاستعادة الأرض المحتلة، تعرضت القوات الإسرائيلية على خط القناة لخسائر كبيرة وتعرضت مدن القناة للقصف مما أدى لتهجيرها من السكان، انتهت هذه الحرب دون نتائج ملموسة بتوقيع اتفاقية روجرز لوقف إطلاق النار بين الجانبين توفى بعدها ناصر في 28 سبتمبر 1970م.

تولى نائبه محمد أنور السادات رئاسة الدولة من بعده، فأصدر الدستور الدائم في 1971م واتخذ طريقاً مخالفاً لاتجاه ناصر فتخلص من الناصريين ومراكز القوى لتعزيز سلطته وأعاد تكوين الأحزاب الممنوعة منذ ثورة 1952م وعمل على بناء الجيش المصري لاستعادة الأرض المحتلة منذ 1967م وطرد الخبراء الروس الذين جاءوا بعد حرب الاستنزاف وتحجيم النفوذ السوفيتي في بلاده، عمل السادات مع حافظ الأسد على خطة مشتركة بين مصر وسوريا تقضي بمهاجمة الكيان الصهيوني في وقت واحد وفي 6 أكتوبر 1973م شن الجيش المصري والسوري هجوماً مفاجئاً على القوات الصهيونية في سيناء والجولان عبر ضربة جوية افتتاحية، تمكنت القوات المصرية من عبور قناة السويس والاستيلاء على أغلب خط بارليف وصد الهجوم الإسرائيلي المضاد وبعد خطة تطوير الهجوم المصري في 14 أكتوبر الذي مني بالفشل، اكتشفت القوات الصهيونية وجود ثغرة بين نطاق الجيش الثاني والثالث المصري عند الدفرسوار وبعد بدء الجسر الجوي الأمريكي لدعم القوات الصهيونية بالعتاد استطاعت قوة صهيونية التسلل منها إلى الضفة الغربية لقناة السويس وتطويق الجيش الثالث لكنها فشلت في احتلال الإسماعيلية و السويس وانتهت حرب أكتوبر بقبول الطرفين وقف إطلاق النار يوم 24 أكتوبر بعد صدور قرار مجلس الأمن وفي 5 مارس 1974م انسحبت القوات الصهيونية من الضفة الغربية لقناة السويس بعد اتفاقية فض الاشتباك الأولى ومباحثات الكيلو 101 وأعيد افتتاح قناة السويس في 1975م بعد توقيع اتفاقية فض الاشتباك الثانية بعدها دخلت مصر حرب مفاوضات دبلوماسية، كان السادات أول زعيم عربي يزور الكيان الصهيوني في 1977م وانتهت المباحثات بتوقيع اتفاقية كامب ديفيد في 1978م التي نتج عنها معاهدة السلام بين مصر والكيان الصهيوني في 1979م وانسحاب القوات الصهيونية من كامل سيناء في 1982م.

كان السادات على عكس ناصر، تقرب للولايات المتحدة فيما عارض سياسات الاتحاد السوفيتي وانضم لنادي سفاري لمحاربة الشيوعيين في أفريقيا، أدت سياسة الانفتاح الاقتصادي التي اتبعها السادات إلى وقوع انتفاضة الخبز في 1977م التي قمعتها السلطات وفي سبتمبر 1981م أمر السادات باعتقال أكثر من 1500 شخص من بينهم بابا الكنيسة الأرثوذكسية ومثقفين وكُتاب وقيدت حرية الصحافة، وصف نفسه بالرئيس المؤمن وفي عهده تصاعد التيار الإسلامي ونفوذ الجماعات الأصولية بدعم منه على حساب اليساريين لكنها تصادمت معه لاحقاً بعد توقيعه معاهدة السلام وخلال احتفالات السادس من أكتوبر 1981م اغتاله بعض ضباط الجيش المصري الأصوليين.

تولى محمد حسني مبارك رئاسة الجمهورية من بعد اغتيال السادات، حافظ مبارك على الالتزام بنصوص اتفاقية كامب ديفيد واستطاع استرجاع مدينة طابا في 1989م بعد حكم المحكمة الدولية، استعاد دور بلاده في الجامعة العربية بعد طردها منها ومقاطعة الدول العربية لها بسبب توقيع السادات لمعاهدة كامب ديفيد وزيارته الكيان الصهيوني وفي 1991م شاركت القوات المصرية في حرب تحرير الكويت إلى جانب قوات التحالف لأجل تخفيض الديون المصرية، شهد مجال السياحة في عهده تقدماً كبيراً لكنه مر بعدة انتكاسات أبرزها مذبحة الدير البحري في الأقصر في 1997م نتيجة هجمات الجماعات المتطرفة الشرسة في التسعينات، في 2003م عارض غزو العراق ومع ذلك سمح للقوات الأمريكية المتجهة لغزو العراق بالمرور من قناة السويس، أدت سياسة الخصخصة التي اتبعها نظامه إلى خسائر اقتصادية كبيرة كذلك شهد الجنيه المصري انخفاضاً متزايداً أمام الدولار بينما ارتفع الاستثمار الأجنبي في البلاد، انتقدت منظمات حقوق الإنسان السجل الحقوقي في عهده وتعذيب المعتقلين في ظل قانون الطوارئ، في 2005 حاول إجراء إصلاح سياسي بطرح انتخابات رئاسية تعددية بعد أن كان رئيس الجمهورية يتولى الحكم عن طريق الاستفتاء في مجلس الشعب، لكن انتخابات 2005 كانت صورية وزورت نتائجها، كذلك كانت انتخابات مجلس الشعب تزور لصالح أعضاء الحزب الوطني الحاكم، أدى فساد الحكومة المتزايد والمحسوبية وغياب العدالة الاجتماعية وارتفاع معدلات الفقر والبطالة وتشديد القبضة الأمنية وقمع المعارضين إلى قيام ثورة 25 يناير 2011م والتي كانت من ضمن ثورات الربيع العربي الذي بدأ في تونس وانطلقت من ساحات عاصمة تونس العديد من المظاهرات، واجهت الشرطة المتظاهرين بالغاز المسيل للدموع والرصاص مما أدى لمقتل المئات منهم وفي 11 فبراير اضطر مبارك للتنحي عن الحكم وهو أطول الرؤساء المصريين خدمة بعد 29 عام قضاها رئيساً لمصر، تولى المجلس العسكري برئاسة المشير حسين طنطاوي إدارة البلاد لحين إقامة الانتخابات الرئاسية وقد خضع مبارك ورجال نظامه بعد القبض عليهم إلى محاكمات انتهى أغلبها بالبراءة وتوفي مبارك في 25 فبراير 2020م.

أصبح محمد مرسي مرشح جماعة الإخوان المسلمين رئيساً لمصر بعد الإنتخابات، لكن حكمه لم يستمر إلا عام واحد بعد عدة احتجاجات شعبية ضدَّه أدَّت لعزله في 30 يونيو 2013م وتوفي بالسجن في 17 يونيو 2019م.

قد يعجبك أيضاً
أكتب تعليق

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك، ويمكنك إلغاء الاشتراك في أي وقت. حسناً قراءة المزيد